لماذا “يسيح” الناس في الإجازات؟


كلام حول مفهوم السياحة والسفر في الإجازات


قبل سنوات قليلة كنت في مجلس مليء “بالعقلاء” فكان أحدهم يتحدث بحماسة عن تجربته الجميلة والفرح الغامر الذي شعر به في إجازته الماضية. وكان يصف بدقة جمال الفندق الذي سكنه والاهتمام البالغ الذي لقيه وكيف كان يهتم به الموظفون في الفندق حتى إن أهله في بيته لا يعاملونه بهذه الطريقة. أذكر أننا دخلنا بعد ذلك في نقاش لاداعي له حول السعادة وحول تجارة السياحة ويا ليتني سكتُّ.

قبل هذا الطغيان العولمي بل وقبل ظهور النظام الوظيفي وقبل نشأة المدارس النظامية واختلال نظام سير حياة الناس = قبل كل هذا لم تكن هذه المصطلحات معروفة ومتداولة. فلم يكن جدي المشغول بحقله وغنمه يعرف شيئا يُسمى إجازة، فحياته عمل دائم وقناعة دائمة. كان أكثر حرية من نسر، لا يهمه من تتابع الأيام إلا ما يعينه على العبادة ومعرفة أحوال الناس والأسواق. فلا إجازة نهاية أسبوع ولا منتصف الفصل ولا “كريميس” -في المجتمعات المعولمة بما فيه الكفاية- ولا دفتر تحضير يومي أو بصمة.

ظهرت الوظائف والمدارس والجدوال السنوية فصار الجيل أمام شيء جديد لم يعرفه الجيل الذي قبله فتلقاها بعفوية وبساطة. ولا تستغرب حين تسمع أن كثيرا من أبناء ذلك الجيل لم يطلب إجازة سنوية لعدة سنوات حتى طغى المفهوم على الناس وغلب، وتسلل مفهوم الإجازة والسياحة. أدرك الناس أن الإجازة تأتي فيأتي معها الفراغ المؤلم والخواء القاسي فبدأ الناس يمارسون “هربا” من هذا الفراغ. فظهرت مراسم الممارسة البسيطة للسياحة: أسرة تحمل حمولتها وربما مؤنتها من الطعام والشراب على سقف السيارة تتنقل بين المدن القريبة وربما حلت على قريب يسكن في منطقة أكثر مدنية أو الجو فيها أكثر اعتدالا.. وقضت الأسابيع والشهور. والسائح يتميز بالفراغ والفضول ومزاحمة الناس في الأسواق وملأ الأماكن العامة التي ربما لايفكر أهل البلد بشغلها. وأذكر في صغري أن مدينتنا الصغيرة الدافئة كانت تجذب أهل المناطق الباردة فيتدفقون عليها في الشتاء. فكنا نتعجب حين نرى بعض الناس في أماكن لايليق الجلوس فيها. يجلسون فيها بلامبالاة أو تحفظ. وكنت أسأل الكبار فكان الرد: هؤلاء “متمشين”! ومن الطريف أن  أعيان المصريين مثلا في منتصف ١٩٠٠ م كانوا يفضلون كلمة " استشفاء" على كلمة " اصطياف" تحرجا حتى لا يلامون على البذخ والإنفاق على "الفسحة" بلا فائدة. يذكر ذلك لويس عوض في مذكراته. (٨)

فالمتمشي أو السائح لاحرج عليه. وهذه الممارسة البسطية للسياحة صارت الآن غاية في التعقيد. فقد غزا السوق منتجات كثيرة وجاذبة تتجاوز بساطة السيارة المتنقلة والعائلة المتواضعة. فوسائل التواصل صارت متكفلة بتعليم الناس أصول السياحة الحديثة وكيف يمكن أن يمكن أن تصنع إجازة العمر وتعيش كنجم يرصد هو بنفسه كل حركاته وسكناته ووجباته وأين يسير وماذا وجد من المتع والبهجة. والصورة النمطية للسائح في التراث الغربي التي تعبر عن شخص يحمل قدرا كبيرا من الفضول والمغامرة مع بحث حثيث عن التجربة والانطلاق، قد تلاشت وانتهت فالسائح الآن هو شخص متعطش لعالم خيالي world of fantasy  ليمارس فيه خياله الذي تصنعه له مصادر أكثر من أن تحصر. ماكان كل هذا ليحصل لولا الفراغ الداهم الذي يملأ حياة “الموظف” فجأة فيحوله إلى كائن مستهلك يسعى لملأ هذا الفراغ بأي شيء مما قد ينتجه سوق السياحة (١).

ويبدو أن “ السائح القديم “ الذي كان يبحث عن الهدوء والسكينة في مكان خال من الناس، والساعي للتجربة الفريدة، فيتنفس الهواء النقي ويتنقل في الطبيعة البكر ناقما على المدنية المادية، قد تلاشى وصار كائنا استهلاكيا بامتياز. حتى التمتع بالطبيعة صار ضمن باقات معينة ، وضمن قوالب لابد للسائح أن يتشكل فيها حتى يتمكن من التمتع بالطبيعة كما يريد السوق! السائح لابد له أن يسكن بطريقة معينة ويتنقل بطريقة معينة .. وتأتي الحافلة في الصباح لتأخذه في رحلة سريعة عبر الغابات إن كان يريد الطبيعة وتعيده للفندق الفاخر.. وفي الطريق تبيع عليه القهوة والمكسرات.(٢) لقد أضحى السكون والطمأنينة مرادفان للملل فلا يمكن للسائح أن يكون سائحا دون الجري خلف الأسواق وملاحقة الأضواء ومناسبات الألعاب النارية والشوارع المزدحمة. وينتهي كل هذا والفراغ الذي في الداخل ما زال كما هو. بل ربما ازداد الفراغ في داخله فلا يقنعه في هذا العالم شيء. وفي دراسة تقارن بين من يسافر بشكل متكرر وغيرهم وكانت النتيجة أن معدل الرضى والسعادة لم يكن مختلفا بين الفريقين وفسروا ذلك بأن “السائح” صار يشعر أن تجربة السفر ليست تجربة “مختلفة” بشكل كبير. فكل ما فعله في سفره هو أمر يمكن فعله في أي مكان(٣)، “ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب”(٤). 


وكنتيجة لجدولة حياة الناس بالوظيفة والدراسة وحصول الفراغ المفاجيء، يمكن القول إن السياحة والسفر في الإجازات لم تعد أمرا طارئا في كثير من المجتمعات بل  صارت هي الأصل، سعيا لصناعة عوالم موازية للعالم الواقعي. فإنسان اليوم لا يرضى ولا يهنأ بشيء. إنها “حالة من الميل نحو أحلام اليقظة في زمن صارت الفنتازيا (٧) فيه جزء من الممارسة الاجتماعية اليومية” كما يعبر لوغرن (٢).

وجانب آخر يغفل عنه “السياحي” البسيط. وهو الأثر الثقافي التي يصنعه سوق السياحة. فلا يمكن للسوق أن تكون جاذبة ومثمرة ما لم تتجاوز البعد المحلي بكل جوانبه القيمية والإجتماعية. فالسياحة “الصحيحة” لابد أن تكون “شكلا مثاليا للعولمة”. وحتى عندما يحاول أحد ما أن يستغل الثقافة المحلية لجذب السياح فلابد أن تكون هذه الثقافة المحلية على الهامش ويكون للسائح قدرة على ممارسة كل ما يمكن ممارسته في وجهة سياحية أخرى “مثالية”(٢). انظر للوجهات السياحية الكبرى في العالم تجد أنها لا تحمل هوية ولا قيم ثابتة. بل هي أماكن معولمة منزوعة القيم والمثل. ويمكن فيها القيام بأي شيء حتى الأشياء التي تتناقض مع قيم ومثل المجتمع المحلي. وربما اضطر المحليون للانحياز والذهاب للهامش. والأمثلة أوضح من أن تحصر. حتى الذوق الموسيقي مثلا في الوجهات السياحية يصبح منبتّا تماما عن الذوق الموسيقي المحلي. وكذلك طريقة الأكل واللباس .. إلخ. 


ولتلخيص ما سبق يمكن أن نفسر تمدد ظاهرة "التسيح" بما يلي: 
- عجز كثير من الناس عن ملء الفراغ خارج العمل الوظيفي. فالوظيفة حتى لكارهها صارت هي هوية الإنسان. فحين يُفك قيده من الوظيفة لبعض الوقت يعجز عن مواجهة ذاته وعن الانشغال بأي شيء ذي معنى. وهذا الحال أقرب ما يشبه بحال الرقيق في الماضي الذي يحرر فجأة فيهيم على وجهه لا يدري ماذا يفعل.
- انشغال الناس بما عند الناس وطغيان التكاثر في المأكل والمشرب والمسكن .. إلخ. 
- البحث عن حياة "فنتازية" ولو لبعض الوقت مماثلة لما يراه الإنسان وما يسمعه في وسائل التواصل والسينما.. إلخ. 
- سيطرة المال على حياة الناس وقدرة الشركات الكبيرة على العبث بالجماهير.
- بلا شك: سهولة التنقل والوصول للأشياء والأخبار. 


وأنا أفكر في هذه المفاهيم وآثارها الإجتماعية الكبيرة خطر في بالي قوله عز وجل يخاطب نبيه في السورة المفعمة بالأنس والطمأنينة = سورة الشرح : “ فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب” فذهبت أبحث في التفاسير عن تفسيرها فوجدت هذا الكلام لدى ابن كثير ولدى الشنقيطي فوافق المعنى الذي في نفسي، يقول ابن كثير: أي : “إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها ، فانصب في العبادة ، وقم إليها نشيطا فارغ البال ، وأخلص لربك النية والرغبة . ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته : " لا صلاة بحضرة طعام ، ولا وهو يدافعه الأخبثان " وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء ، فابدءوا بالعشاء " (٥). 

ويقول الشنقيطي في أضواء البيان: 

والذي يشهد له القرآن ، أنه توجيه عام للأخذ بحظ الآخرة بعد الفراغ من عمل الدنيا ، كما في مثل قوله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ، وقوله : إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا [ 73 \ 6 ] ، أي لأنها وقت الفراغ من عمل النهار وفي سكون الليل ، وقوله : إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [ 110 \ 1 - 3 ] ، فيكون وقته كله مشغولا ، إما للدنيا وإما للدين . 
وفي قوله فإذا فرغت فانصب ، حل لمشكلة الفراغ التي شغلت العالم حيث لم تترك للمسلم فراغا في وقته ; لأنه إما في عمل للدنيا ، وإما في عمل للآخرة (٦). 


أتأمل هذا ثم أنظر حالي وحال الناس. نفرغ من عمل الدنيا فنقبل لعمل لآخر من أعمال الدنيا لايزيدنا عن الآخرة إلا بعدا. متعلقين بالسعي خلف البهجة والمتعة. مبهورين بهذه الأشياء الرخيصة وعسى الله أن يرزقنا منه هداية وفهما حتى ندرك ما يستحق وما لايستحق.


مصادر: 


١) العولمة، جلال أمين. دار الشروق. والكتاب من الكتب الجميلة التي تتحدث عن العولمة واثرها الاقتصادي والاجتماعي. والكاتب صاحب لغة جميلة وسهلة. 

2) Löfgren, Orvar. On holiday: A history of vacationing. No. 6. Univ of California Press, 2002.

3) Nawijn, Jeroen. "Happiness through vacationing: Just a temporary boost or long-term benefits?." Journal of Happiness Studies 12.4 (2011): 651-665.
 ٤) الحديث في صحيح مسلم
.٥) تفسير ابن كثير
٦) تفسير أضواء البيان.
٧) الفنتازيا: هي حالة الانغماس في الخيال وأحلام اليقظة والاستمتاع بالانطلاق في التفكير حول أشياء  غالبا لن تحدث. 
٧) أوراق العمر : لويس عوض.  

 وهنا مدونة سابقة فيه أفكار حول التفكير بعقلية السائح والشيء بالشيء يذكر.

تعليقات

ضع بريدك هنا ليصلك ما ينشر في هذه المدونة من وقت لآخر..

* indicates required

الأكثر قراءة