شيء عن التفكير والعقل البشري





العقل البشري ليس " آلة " بسيطة ، بل هو كون هائل ومعقد ، محاط بأكوان هائلة ومعقدة من المعطيات والأسئلة وإجاباتها وما يظن العقل أنها إجاباتها .. والعقل البشري يطوف ويجوب العالم ويضع المشاكل ويفترض لها الحلول دون إدراك كامل منا في أغلب الأحيان . فالإنسان يسير في الشارع المزدحم ، بالناس والسيارات والمراكز التجارية ، يسير والصور تعبر إلى عقله ، وعقله يميز بينها ويصنفها ويصنع روايات وأحداثا ومشكلات وأحلاما بلا إدراك كامل ولاجهد .. وهذه التلقائية التي تشكل الجزء الأكبر من عمل عقلنا البشري تصنع بوابات هشة ، وفجوات غير مدركة تتسلل منها المعلومات التي بلا برهان ، والأخبار الواهية ، والإشاعة المكشوفة . 
والسياسيون وصناع الإعلام يفهمون ذلك جيدا ، ويعلمون أن السواد الأعظم من الناس لايتعاملون مع الأخبار بمنهج نقدي دقيق ولايستطيعون التمييز بين الصواب والخطأ ، وعندما يستغرب البعض القليل كيف صدق معظم الناس الخبر الكاذب الذي نشرته إحدى وسائل الإعلام ، فذلك لإنهم لايدركون أن التصديق هو الطريقة الأسهل والأريح في التعامل مع الأخبار وأن من طبيعة العقل البشري التلقائية والتلقائية يتبعها التصديق والبعد عن " وجع الرأس " الذي ينتجه التشكيك والتأمل ومحاولة البحث عن الأدلة الخافية . والأدهى من ذلك أن المعلومة الكاذبة قد يتصدى لها من يفضحها ويكشف زيفها لكن هذا لايحل المشكلة لأن أثرها قد حصل ووقع ، ومعظم من سمع الخبر الأول وصدقه لم يعد يهمهم شيء إلا التأكيد على أنه صحيح وواقعي مهما كانت الأدلة التي تناقضه وتكشف زيفه !

قانون التوافر : 

هناك قاعدة ذهبية يكررها الفقهاء  : " عدم العلم ليس علما بالعدم " ، وهي تمثيل معاكس لقانون التوافر الذي تسير عليه عقولنا البشرية بشكل يومي دون أن نشعر . عندما تسأل طبيب جلدية مثلا عن توقعه لنسبه أورام القولون مثلا فالرقم غالبا سيكون أقل بكثير من الرقم الذي يتوقعه طبيب يعمل في جراحة القولون والمستقيم ، وعندما تسأل احدما يعمل في مجال التحقيق عن توقعه لنسبة الجريمة سيكون الرقم كبيرا مقارنة بشخص طيب ومسالم حياته من عمله إلى بيته إلى مسجده
وبحسب ما يتوافر لدى ذاكرة الإنسان من مواقف وأحداث التي لاتعد مقياسا إحصائيا سيظهر الرقم أمامنا أكبر وأكبر . وصاحب كتاب " Thinking , Fast and Slow " ذكر مثالا جميلا لتوضيح كيف يعمل هذا القانون العقلي التلقائي فذكر أن حصول حادثة طيران كبيرة تغطيها وسائل الإعلام ستجعل الخوف يتسلل إلى أعماقنا والأسئلة تتوارد علينا حول أمن الطيران ، وحصول فيضانات كبيرة في مكان ما تزيد نسبة الاتجاه لشركات التأمين للتأمين على المنازل والسيارات ضد الفيضانات . والمثال الأكثر تكررا في واقعنا أن رؤيتنا لحادث مفجع على جانب الطريق ونحن نسير بسرعة هائلة ستجعلنا بلا إدراك نقلل السرعة لمدة لا تطول " خوفا من حصول حادث " ، وعندما يقل تأثير الحادث الذي رأيناه نبدأ بالعودة إلى ما كنا عليه ! .. 
هناك دراسة طريفة ذكرها صاحب الكتاب المذكور على عدد من الأزواج ، وجد أن كل زوج يفترض أنه أكثر مساهمة من الآخر في استمرار الحياة الزوجية سعيدة وسالمة .. والتفسير سهل وواضح وفقا لهذا القانون وهو أن الإنسان يتذكر أفعاله ومواقفه أكثر مما يتذكر أفعال ومواقف الآخرين !
هذه أمثلة بسيطة لكنها تقودنا إلى أمثلة أكبر وأعمق ، حول قناعتنا وأفكارنا ومنطلقاتنا .. وتجعلنا أكثر حذرا وأقل ثقة في أحكامنا على الأشياء والأفكار والناس . 


خدعة الأرقام الصغيرة : 

كل يوم يمر علينا عدد من الإحصائيات التي تدرس جانبا من جوانب حياة الناس ، أو جانب من جوانب مجتمع معين . والأرقام عادة لها هيبة وتقدير وشيء من القداسة تجعلنا نقبلها دون تمحيص أو تدقيق ... قبل سنوات كنت مشاركا في دراسة مع مجموعتي الدراسية حول نسبة الأطباء المدخنين في منطقة عسير ، وكنت من المكلفين بالتوجه إلى أحد المستشفيات خارج أبها . كانت صدمتي كبيرة حين وجدت أن 50 % من الأطباء مدخنين . هذا للوهلة الأولى لكن الحقيقة أن عدد الأطباء الذين جرى عليهم الاستطلاع في ذلك المستشفى كان 10 فقط وكانوا عددا قليلا جدا من عدد المشمولين بالدراسة . للأسف كثير من الأرقام المنشورة في وسائل الإعلام هي على هذه الصورة ، عدد قليل من المشاركين وتظهر على أنها دراسات علمية تستحق النشر والتعميم ! وهذا خطأ منهجي كبير . 

الطريف أنني اكتشفت من نفسي يوما ما ميلا إلى البحث والتدقيق خلف الأرقام والإحصائيات المنشورة في الإعلام حين تأتي النتيجة عكس ما أميل إليه ، في المقابل وجدت نفسي أقل حرصا على ذلك حين تأتي إحصائية تؤكد لي قناعات سابقة لدي .. وهذا شيء يقودنا لنوع من التفكير يسمى 
" الانحياز للتأكيد " .. والرقابة الصارمة على تلقائية العقل البشري صعبة جدا بل مستحيلة ، لكن نحتاج القليل منها على الأقل لنكون أكثر صدقا وأحكامنا أقرب للعدل . 

الانحياز للتأكيد : 

عقلنا البشري بطبيعته ميال إلى ما يجعله أكثر راحة وهدوء واستقرارا لنسلم من عناء التفكير بل من عناء العقد النفسية أحيانا . ولدى العقل البشري وسائل دفاعية كثيرة جدا تضمن للإنسان العيش بهدوء وراحة ضمير وسلامة من التأنيب والندم والقلق . ربما نتساءل كيف يمكن لإنسان ما أن يؤمن بخرافة من الخرافات ويتمسك بالإيمان بها ؟ وبأي طريقة يفكر المريض الذي يترك الطب القائم على دراسات أو أدلة ويتجه لعلاج قائم على حكايا الجدات ؟ . 
عندما يرغب الإنسان في الاقتناع بشيء ما فإنه يصبح أعمى عن كل ما يناقضه ، ولايرى ما حوله إلا من الأشياء إلا ما يؤكد قناعته ويؤكدها أكثر ، وهذا هو الانحياز للتأكيد . وفي هذا أجرى بعض الباحثين دراسة على جمهوري فريقين متنافسين ، ووجه لهما سؤال واحد : ما الفريق الذي يلعب بخشونة ؟ فكان الجواب من كل جمهور أن الفريق المنافس هو الأكثر خشونة .. فحب الجمهور للفريق وتعصبهم له جعلهم لايرون أي شيء إلا ما يؤكد سوء الفريق الخصم ! 
هذا نراه كل يوم في تويتر مثلا ، كيف يأتي الخبر العابر سواء كان صحيحا أم مصنوعا ، فيتلقاه المنتفعون منه لقناعتهم بالنشر والتضخيم والتعميم ليشمل التيار المنافس دون تحر للصدق والعدل أو طلب للحق ! 


أثر التكرار : 
" الطريقة المثلى لتجعل الناس يؤمنون بكذبة معينة هي أن تكررها دائما ، لأن الفكرة المألوفة من الصعب تمييزها عن الحق " ! داني كينمان .  
وهذا أثر خطير جدا ، وانتبه له الفقهاء المسلمون ، وتتكرر عبارة عمر رضي الله عنه : أميتوا الباطل بعدم ذكره ، وإن لله عبادا يميتون الباطل بهجره . وخطورة التكرار أن تنشأ أجيال على شيء تظنه حقيقة فتؤمن به ويصعب عليها التشكيك فيه أو هجره ، لأنه أمر صار من الإلف بمكان يصعب معه أن يوضع على مشرحة النقد وقد ذكر الطاهر بن عاشور كلاما مهما في تعليقه على قول الله تعالى : " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون " قال ابن عاشور : 
((لشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو بالكذب مفسدة أخلاقية ؛ فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها وتجهمهم وكراهتهم سوء سمعتها وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها بله الإقدام عليها رويدا رويدا حتى تنسى وتنمحي صورها من النفوس، فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تذكرتها الخواطر وخف وقع خبرها على الأسماع فدب بذلك إلى النفوس التهاون بوقوعها وخفة وقعها على الأسماع فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها وبمقدار تكرر وقوعها وتكرر الحديث عنها تصير متداولة. هذا إلى ما في إشاعة الفاحشة من لحاق الأذى والضر بالناس ضرا متفاوت المقدار على تفاوت الأخبار في الصدق والكذب))
ومن هذا نجد تفسيرا للانحطاط الأخلاقي الذي وصلت إليه بعض مجتمعات اليوم ، بالتدرج والتكرار والإلف .

والإنسان " العاقل " الساعي للحق والعدل مطالب بأن لا يستسلم " لهواه " والرسائل التي يتلقاها  ، وأن يضع أحكامه على مشرحة الدين والأخلاق الفاضلة والعلم المثبت ، وإلا كان واحدا كأبسط الناس لايملك أداة صحيحة للتمييز والنقد . والاعتماد على ما نسميه عقل هو اعتماد على ركن ضعيف هار ، لأن من العسير جدا التمييز بين ماهو هو عقل وماهو هوى أو رغبة مجردة . 


والحقيقة أن هذا المجال شيق ومفيد  ، ويبين ضعف الإنسان وضعف العقل البشري وهشاشته مع ثقته بذاته وأحكامه ! وما كتب هنا ليس إلا جزء يسير من عالم كبير ومعقد .  ومادة هذا المقال أوحاها إلي كتاب : " التفكير ، بسرعة وببطيء " ، ومنهج دراسي على موقع جامعة هارفرد التعليمي بمسمى " علم التفكير اليومي " .. وربما يكون للحديث بقية . 


تعليقات

  1. كلماتك يا غاااالي في الصميم ... أقسم بالله أنه أثناء قراءتي لهذا المقال أحسست أنك تشرح حالتي ... انا الآن ٣١ و فعلا أمور كثيييييره في حياتي بدأت تأخذ منحنى آخر عما كانت عليه سابقا

    ردحذف
    الردود
    1. حياك الله .. أسعدني ردا جدا. جعلنا الله وإياك هداة مهتدين

      حذف

إرسال تعليق

ضع تعليقك هنا

ضع بريدك هنا ليصلك ما ينشر في هذه المدونة من وقت لآخر..

* indicates required

الأكثر قراءة