الأدعياء المكابرون
إن أي مجتمع ثقافي وفكري يُدَّعى فيه التجرد والحيادية والصدق والسعي للحق وإحقاقه، معرَّض لظهور المتطفلين عليه وعلى التجرد والحق والحيادية، وإن ما نراه ظاهراً من منافحة الكثيرين عن آرائهم، وما يسمونه قناعات ما هي إلاّ صرخات مفرغة من القناعة الداخلية والإيمان الحقيقي بالمبدأ الذي يخالط النفس واللب والجوارح..
هؤلاء لا جدوى منهم في عالم الفكر والثقافة، بل يشغبون على القارئ والباحث عن الحقيقة، ويملؤون ساحاتنا بالصراخ والكلمات الرنانة الجوفاء التي لا نرى لها في الواقع أثراً ولا نتيجة، وامتلأت الأرفف والشبكات الإلكترونية بالكلمات والجمل الكبيرة التي - وإن وجدت من يؤمن بها - تخلو من الروح التي تغذيها بالصدق واليقين والعمل.
وأي جدوى يستجديها القارئ من مثل هذا؟!
ربما لا نبعد عن الحقيقة حين نؤمن أن سهولة الوصول للمعلومة أو الدليل أو الخبر التاريخي، هو ما صنع لنا "كتاباً ومفكرين" من ورق، آراؤهم وأقوالهم تسبق ما يستدلون به، ولا تقوم على قراءة واعية مركزة عميقة شاملة، وما دامت المكتبات و الموسوعات الإلكترونية الشاملة لكل الفنون والعلوم بين أيديهم، فلن يعجزهم الاستدلال لأي رأي مهما شذ أو ندر؛ فالتاريخ الإنساني مليء بكل ما يسهل به الاستدلال "عند اللزوم"!
وهذا من مساوئ زمن السرعة والمعلومة المتوفرة الذي يساوي في نظر القارئ - أحياناً كثيرة - بين المفكر والمثقف الواعي الصادق، وبين المتطفلين على الفكر والثقافة والوعي.
ترد دائماً المقولة المشهورة: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم"، وإن الثقافة والفكر "علم" يلزم القارئ أن ينظر عمّن يأخذه، فكم في واقعنا ممن يُؤخذ عنهم، وهم لا يملكون من الدين والنبل ما يمنعهم من الوقوف للحق والبحث عنه، بل إن هناك من يرى الحق أمامه فيتعامى عنه كأن لم يره، فالعلم وحده لا يكفي ما لم تمازجه أخلاق النبلاء من الصدق والشهامة، والترفع عن الخلاف الشخصي، والسعي لإسقاط الآخر وامتهانه، والتمسك بالرأي من أجل ألاّ يُقال لقد رجع فلان!
تاريخ الإنسانية مليء بنماذج المكابرين والمتطفلين على العلم الذين قدموا أهواءهم على عقولهم وإيمانهم، وإن ما صح في الماضي وقوعه، فالحاضر لن يسلم منه، ولعلي أختم بما ورد في لسان الميزان أن "علي بن ظبيان قال: قال لي بشر: القول قول من قال بأن القرآن غير مخلوق، فقلت له: ارجع قال: كيف أرجع وقد قلته أربعين سنة، ووضعت فيه الكتب والحجج؟".
إن الحديث عن مثل هذا، ليس اتهاماً لأحد من الناس، ولا يصحّ أن يكون دليلاً نظهره عندما نختلف، بل حديث عن عارض يعرض على أي مجتمع يظهر في الخلاف الفكري والعلمي.
مقال منشور في الإسلام اليوم بتاريخ:
الثلاثاء 21 ذو الحجة 1430 الموافق 08 ديسمبر 2009
تعليقات
إرسال تعليق
ضع تعليقك هنا