بين الحب السائل وروح الحداثة.








كمية الأفكار التي يحويها كتاب الحب السائل كبيرة جدا، وقد تشعر في بعض فصوله أن الرجل يفقد القدرة على التركيز عند انتقاله من فكرة إلى فكرة. وهو بنفسه قد أعترف بذلك في في توطئته للكتاب فكلامي هنا ليس اكتشافا جديدا. لكن قراءة الكتاب تبين أن هذا الفوضى هي الصبغة العامة للكتاب وأن حديث المؤلف في بداية الكتاب ليس مجرد مقدمة تلطيفية لبعض ما يقد يجد القاريء من بعثرة بل هي وصف حقيقي. ولا أدري إن كان هذا بسبب الترجمة أم أن الكتاب كذلك في نصه الأصلي. والحقيقة أن أجمل ما في الكتاب هو مقدمته التي كتبتها وهبة عزت وهي ربما تغني عن قراءة الكتاب لمن لا يملك الوقت لقراءته كاملا.

من الصدف أنني كنت أقرأ روح الحداثة لطه عبدالرحمن في وقت قريب لقراءتي لهذا الكتاب وشدني كثيرا فصل “ الأسرة ما بعد الحداثية وانقلاب قيم الحداثة” ثم حديثه بعد ذلك عن “ انقلاب السعادة إلى اللعب” وسيطرة الرغبة على بناء الأسرة. وانقل هنا بعض كلامه:

“ ليست هذه الرغبة أبدا شوقا معنويا، وإنما، على. العموم، بغية مادية، أي شهوة ؛ فلا تجد الأفراد في الأسرة المابعد حداثية. يتنافسون في شئ تنافسهم في جلب أقصى ما يمكن من الشهوات والملذات، لأنفسهم أولا ولشركائهم ثانيا، ولا سيما أن محيطهم الخارجي فتح لهم باب الاستهلاك على مصراعيه، مستظهرا بكل وسائل الإعلام على تزيين ما طاب ولذ من مبتدعات السوق، التي إن لم تزدهم احتياجا واشتهاء، لا تزيدهم كفافا وعفافا…. وهكذا تكون حياة الأسرة المابعد حداثية الواحدة عبارة عن رغبات وشهوات متتالية تختلف باختلاف اللحظات. أي حياة تحمل في نفسها أسباب الانتقال عنها إلى غيرها، لأن الفرق بين الاسرتين الاثنتين كالفرق بين اللحظتين داخل الأسرة الواحدة، لذا لا عجب أن يقال : “ إن الحياة الأسرية عادت سلسة من المشاهد”

“ … وعلى هذا يصح أن نقول بأن الأسرة المابعد حداثية استبدلت بطلب السعادة الذي يميز الأسرة الحداثية طلب اللعب، لأنه أشبه بسعادة صغار منه بسعادة كبار، ولا نعدو الصواب إن قلنا بأن العقلية التي أضحت تدبر لجودة الحياة داخل هذه الأسرة هي عقلية اللاعب الصغير، لا عقلية الصاحب الكبير..” 
وهذه أحد النقاط التي تقارب فيها المؤلفان. 


وفي الكتاب الأول يصعب على القاريء إيجاد تسلسل منطقي للأفكار فمثلا: كان المؤلف يتحدث عن المدن الحديثة وانشغال الساسة واستغراقهم في القضايا المحلية اليومية. لكنه فجأة بدأ يتحدث عن مشاكل العولمة من الحروب وإرهاب وتلوث .. الخ. ويستطرد في حديثه حتى تفقد حلقة الوصل بين هذه الأشياء لكنك تدرك أن المؤلف يريد بعد هذا أن يعود ليقول لك إن السياسي المستغرق في القضايا المحلية يجد نفسه مضطرا لإيجاد الحلول لقضايا عولمية ليس له قدرة على التحكم بها “ كالإرهاب والتلوث .. الخ” ويقول لك أن المدن أصبحت مكبات نفاية لقضايا العولمة. وهو وصف ذكي وجميل.


مما أعجبني في الكتاب التعبير التدقيق الذي صنعه المؤلف لوصف العلاقات الإنسانية في المجتمع الغربي وكل مجتمع يسير على نهجه. وهو تعبير “ اللايقين” فكل شيء قابل للتغير والتحول. والعلاقات البشرية غير ملزمة لأنها قد تصنع قيودا  تحد الإنسان عن متع جاذبة ومغرية. وهذه حالة من حالات السيولة التي تميز هذا العصر بشكل عام كما يقول المؤلف في كتاب آخر: "ففي تحوّل عظيم صار المجتمع يعظّم، أيّما تعظيم، المرونة في قلب الأشياء رأسا على عقب، والتخلص منها، والتخلي عنها، فضلا عن الروابط الإنسانية التي يسهل حلها والفكاك منها، والواجبات التي يسهل الرجوع عنها، وقواعد اللعب التي لا تدوم أطول من زمن اللعبة، فقد ألقي بنا جميعا في سباق نلهث فيه وراء كل جديد” “ففي ظل السيولة كل شيء ممكن أن يحدث، لكن لا شيء يمكن أن نفعله في ثقة واطمئنان”. وأصبحت علاقاتنا مستقرة في “جيوبنا العلوية” أو هي كالعباءات على أكتافنا حتى نتلص منها بسهولة في أي لحظة.


ومرة أخرى الكتاب عبارة عن بوابة إلى طريقة مختلفة للنظر للأشياء يعيبه الفوضى التي أميل إلى أنها بسبب الترجمة والله أعلم.


تعليقات

ضع بريدك هنا ليصلك ما ينشر في هذه المدونة من وقت لآخر..

* indicates required

الأكثر قراءة