شاهد على القرن - مالك بن نبي








مالك بن نبي في كتابه هذا هو صوت كل عربي أو مسلم حر يدرك ما يدور حوله في هذا العالم. كل حر يرى هذا الاستعمار الذي يحاصره من كل جانب في فكره ودينه وهويته وثقافته ومطعمه ومشربه. وهو يرى الحضارة الغربية المطففة التي تدمر شعوبا بأكملها في أيام بدعوى نشر الديموقراطية وفي نفس الوقت تزعج العالم بالحديث عن حقوق الحيوانات والكلاب والقطط .. إلخ. يصور مالك بن نبي بدقة في كتابه هذا نفسية العقلاء من جيله ممن شهدوا تحول المجتمعات وانسلاخها أو سلخها بقوة المستعمر القاسية أو الناعمة.

ورغم أننا في بلادنا بفضل الله لم نحتك بالمستعمر الباطش ولم نرأ الجندي الغريب يطأ أرضنا، لكنني أتحسر وأنا أرى الأشياء تتحول بسبب القوة الناعمة التي تقتلع كل شيء كتسونامي عنيف. فماذا يمكن أن يشعر به الذي شهد الاستعمار والجيوش الجرارة تدوس تاريخه وحضارته وأسرته. ويرى الجيوش تحطم بيته ومسجده وبقالة الحي ودكته .. وتعبث بكل الذكريات فيه.


شدتني أشياء كثيرة في الكتاب حتى انتهيت منه في ثلاث جلسات أو أربع. وهو من الكتب التي كنت تتكرر علي كثيرا منذ أن كنت في الثانوية لكن لم تتحقق لي قراءته إلا هذه الأيام. لكن أكثر ما سلب انتباهي هو حديثه عن بلاء أصاب المجتمع الجزائري في فترة حرجة من تاريخه تحت الاستعمار وهو “داء الكلام” وكثرة المتحدثين واعتداد كل فرد بنفسه حتى لا تكاد تجد مجموعة عاقلة تتفق على رأي. فتراه يقول:

“ قد فتحت في الجزائر محابس الكلام، فاستولى على كل فرد داء الكلام كلامه أو كلام جاره، وإنه لداء قتال! حتى إن بعض المصابين كان ذات يوم مع الجمهور التبسي، يستمع إلى خطباء يتكلمون بقاعة المهرجانات، فطلب الكلمة فلم تعط له فصرخ:

- إنني سأنفجر إن لم أتكلم! ..فأراد بعض الحاضرين- وأعتقد أنه (حشيشي مختار) وربما معه (خالدي) - أن يتفادوا الانفجار فقالوا:

- أعطوه الكلمة! .. أعطوه! ..

قفز المريض على المنصة ومكنسة بيده، لا أدري أين وجدها وقال:

- يجب أن نكنس الاستعمار هكذا! ..

هذا كل ها قاله وهو يلوح بالمكنسة، ثم نزل مرتاحاً كمن تنفس بعد أن ضاق صدره؛ ولا يستطيع أحد تقدير ما تكبدنا من خسائر جوهرية منذ استولى علينا مرض الكلام، ومنذ أصبح المجتمع سفينة تائهة، بعد إخفاق المؤتمر.” “ أصبح كل فرد مهتماً بـ (معزوفته) الشخصية في العزف العام، ويسعى لمصلحته الخاصة باسم الإصلاح أو باسم الوطنية.” 

وهأنت ترى أصحاب المكانس هؤلاء والذي لايعرفون ولكنهم لا يسكتون حتى اختلط على الناس العارف وغير العارف. وصار كل أحد يتحدث في كل فن دون حياء ولا خجل فعزف كثير من أهل المعرفة عن هذه العوالم لأنها أصبحت رافضة للمعرفة الصحيحة ولا تقبل إلا المهرجين أو من هو قريب منهم. 




١٨ ربيع الأول - مورغانتاون

تعليقات

ضع بريدك هنا ليصلك ما ينشر في هذه المدونة من وقت لآخر..

* indicates required

الأكثر قراءة