سبعة كتب (١)


خواطر وانطباعات عن كتب قرأتها في الفترة القريبة وليس بين هذه الكتب من رابط إلا الفترة الزمنية أو قربها من الذاكرة. وتعمدت أن تكون من الذاكرة دون أن أعود للكتاب حتى تكون صورة عامة مما انطبع في الذاكرة عن هذا الكتاب أو ذاك. وإن عدت فإنما أعود لمقتطفات دونتها أثناء قراءتي الأولى للكتاب. آمل أن يجد القاريء فيها ما يستحق.




١) رحيق العمر - جلال أمين 
جلال أمين له أسلوب عظيم وسلاسة مبهرة قل أن تجدها لدى كاتب أخرى. يكتب بلا تكلف ولا تصنع.. وهذا الكتاب الثالث الذي اقرأوه لجلال أمين وكله تتميز بهذه الميزة الفريدة= أناقة الأسلوب وسلاسته. وجلال أمين لمن لا يعرفه هو ابن أحمد أمين صاحب " ضحى الإسلام .. الخ" وللأب كتاب المذكرات الشهير " حياتي " الذي يفيض بالحكمة والسكينة. ورحيق العمر ينقل بوضوح حياة شخص من طبقة المثقفين المصريين الذين خاضوا نقلة ثقافية كبيرة بالسفر إلى أوروبا والذوبان في محيط الحضارة الغربية. ولعل أكثر ما ربطني بهذا الكتاب هو الجانب الإنساني والأسري حين يتحدث الكاتب عن بعده عن أمه وأسرته وهي تجربة أخوضها وأعاني مرارتها. وينهشني تأنيب الضمير أحيانا ويأتيني السؤال الكبير: " ما لك وكل هذا؟ ". 
ودائما أعود فأقرأ كتب السير الذاتية بين فترة وأخرى لأنها سجلات حافلة بالحياة وفيها من التجارب والحكمة التي تفتح للقاريء المغاليق. وقد أضحكني الكتاب وأبكاني فللكاتب قدرة على السخرية الراقية وله قدرة على الخوض في النفس الإنسانية. غفر الله سخريته من عمته. كانت سخرية لاذعة ما عدت إليها إلا ضحكت من كل قلبي. وكنت قد قرأته بعد فترة من الكتب والقراءة، فالتهمته التهاما . والكتاب متوفر على الشبكة. 

٢) أشياء تتداعى - تشنو أتشيبي: 
لا شيء يشغل بالي على مستوى الأفكار مثل التفكير في تلاشي الهويات وضبابية المباديء والقيم. وعلى رغم هذا الوعي الذي يزداد بين الناس إلا إنني أراها وعيا ناقصا ولا يزيد العقلاء إلا حسرة. يجتاحنا تسونامي الحضارة الغربية بكل سياقاته وصرنا نتشكل بلا وعي ضمن القوالب الغربية على كل المستويات: الاجتماعية، والأخلاقية، الدينية .. إلخ. وهذه الرواية تحكي قصة قرية أفريقية نائية داهمها المستعمرون بقوتهم الناعمة والخشنة واستمالوا بعض ابناء القرية. قاوم الناس بحماس ما لبث أن خفت ثم صار المناضلون منبوذون على الهامش. ثم تداعى كل شيء!  والرواية كتبها هذا الكاتب النيجيري وصدرت عام ١٣٧٧ هـ / ١٩٥٨ م .

٣) الحب السائل - بومان: 
الكتاب دسم جدا وربما تعجز أحيانا عن إدراك التسلسل أو التنقل بين الأفكار، فتدرك الرابط بينها بصعوبة بالغة: 
مثلا كان يتحدث عن المدن الحديثة وانشغال السياسي بالقضايا المحلية غالبا، ثم فجأة ينتقل إلى الحديث عن مشاكل العولمة من حروب وخوف، وإرهاب، وتلوث .. إلخ. وصنع ذلك لأنه يريد أن يقول أن السياسي أصبح متورطا في قضايا عولمية بسبب تداعياتها على المجتمع المحلي : التلوث مثلا او الصحة .. إلخ ويقول أن المدن أصبحت مكبات نفاية لقضايا العولمة. ثم يعود ليتحدث عن المدن والتغييرات التي تطرأ عليها.. ديترويت مثلا. هان علي كل هذا التخليط لأن مُقدِمة الكتاب الدكتورة هبة عزت قدمت له تقديما بارعا جميلا ولو اكتفى القاريء العاجز بقراءة المقدمة لكفته.
حديثه عن هشاشة الروابط الإنسانية  بسط كثيرا من الأفكار التي كانت تدور في رأسي وأنا أعايش هذا المجتمع الغربي الهش جدا في علاقته. ونظّر لي لماذا يختار زميل المهنة الذي عملت معه أشهر عديدة أن يمر من جواري بعد أسبوع من انتهاء عملي معه دون أن يلقى تحية معتبرة. فالعلاقات هنا سائلة وهشة وسهلة الاستهلاك كوجبات سريعة. فالعلاقات كما يصفها يجب أن تبقى في الجيب العلوي: " يجب أن تقع على الأكتفاف مثل عباءة خفيفة حتى يمكن التخص منها بسهولة في أي لحظة" ص ٥٩. ثم يعرج على التحول الكبير الذي حصل في فهم المجتمعات بشكل عام والمجتمعات الغربية بشكل خاص للزواج والجنس والجوار. ففهم الحياة الزوجية مثلا تحول من علاقة عامرة بالسكينة والطمأنينة، إلى علاقة يراد لها أن تقوم على الشبق والوله والعشق واللعب. ومع الزمن يكتشف الطرفان فجأة أن الحياة لا تستقيم بهذا الشكل وأنها مليئة بالمتاعب: ولا تنتهي المتاعب عندما يعيش الزوجان معا، فالغرف المشتركة ربما تكون مرتعا للفرح والمرح الممتعين، لكن قلما تكون ملاذا للسكينة والطمأنينة، وبعضها يمثل مسارح لأحداث درامية قاسية يصاحبها تراشق بالألفاظ، ويتصاعد إلى اشتباكات ولكمات.." ص ٦٠. وكنت بداية احتكاكي بالغرب والغربيين أتعجب من الإحجام عن الزواج وأذكر أن مريضا في الخمسين جاءني العيادة مع امرأة مقاربة لسنه، وكانت خلاصة بعض حديثي معهما أنهما ليس زوجين بل صديقين منذ ٣٠ سنة وأنهما يقضيان الحياة كزوجين. والفرار من عقد الزواج هنا هو فرار من الالتزامات المادية أو هو هروب من المسؤولية بمعنى أدق وهذا من أهم ما يميز العلاقات السائلة الهشة. الدخول في علاقة صارمة وجدية معناه خسارة الكثير من المتع المحتملة الأخرى. وهذا يمتد كذلك إلى الإحجام عن الإنجاب. ولا يخدعنك أحدهم فيقول أن الغرب يقلل من الإنجاب حرصا على تربية أولاده كلا! بل المبالغة في التنظيم وتقليل النسل هي من " خشية الإملاق" والنفقة. وكما ترى هنا هي حالة من حالات الهروب من المسؤولية. وربما استطردت هنا كثيرا والخلاصة أن الكتاب بوابة لفهم كثير من القضايا الإجتماعية. 

٤)  دفيء الليالي الشاتية - عبدالله بن صالح العريني. 
الرواية تحمل معان سامية وعميقة. وكاتبها صاحب رسالة وهم عميق ولا أشك في ذلك وإن كنت لا أعرفه ولم أتعمد اقتناء الرواية بل وجدتها ضمن مجموعة كتب يود المركز الإسلامي تخليص المكتبة منها. والرواية تحكي قصة شاب سعودي مبتعث برفقته أسرته الصغيرة. وهذا الشاب صاحب دين وخلق ويسعى ليتمثل أخلاق الإسلام. أثرت أخلاقه في الأسرة التي سكن معها ابتداء وامتد تأثيره لابن عمه المبتعث الآخر في مدينة أخرى لكنه على نقيضه فيما يتعلق بالأخلاق والدين. والرواية وإن كانت تحمل معان سامية وجميلة إلا إنها ضعيفة من الناحية الأدبية بل لا أبالغ إن قلت إنها تفقد أي حبكة أدبية وهي تصلح للقاريء المبتديء وتصلح لطلاب الثانويات كذلك ومن في حكمهم.

٥) الفيومي - طاهر الزهراني
يواصل طاهر الزهراني في مشروعه الروائي اللطيف في استعادة الرجل الجنوبي أو التاريخ الجنوبي القريب تبعا لروايته
" ابن الجنوب". وربما أكثر ما لاحظت في هذه الرواية أن الأحداث تدور في زمنين متوازيين. فمعارك الحوثيين حديثة جدا، كذلك تهمة الإرهاب التي ألقيت على بطل الرواية. وفي نفس الوقت التفاصيل والشخصيات تعيش قبل خمسين سنة لمن يعرف تاريخ المنطقة وعاداتها. كعادته طاهر يسهب في الواقعية فيصر على تفاصيل جنسية دقيقة في كل رواياته. رواية لطيفة وخفيفة وليست أفضل روايات طاهر. قرأت له: جانجي، أطفال السبيل، نحو الجنوب والميكانيكي. وأظن إن لم تخني الذاكرة أن هذه من أقلها جودة. وأقول بحكم معرفتي بطبيعة المنطقة وعادات أهلها أنه استطاع نقل صورة شبه حية لرجل يتكرر كثيرا في جبال السروات: عاشق، راعي للغنم، صياد ماهر، مولع بالجبل والوحدة لكنها جعله يعيش في زمان غير زمانه.

٦) الفردوس الأرضي - عبدالوهاب المسيري
أتحسر لأنني لم اقرأ كثيرا للمسيري حتى هذه اللحظة فكل ما قرأت له كتابين أو ثلاثة. وهذا الكتاب الخفيف الجميل الذي يصف تجربته في أمريكا يصلح لكل متطلع لفهم هذا المجتمع وكيف تتشكل ثقافته وأثر الاقتصاد على المجتمع. وفيه حديث جميل وعميق عن الحركات النسوية ودور المرأة الحالي في المجتمعات الغربية. وأعود فأقول أنا أكتب هنا انطباعات عن الكتب وليست مراجعات أو تحليل. وكل هذا من الذاكرة والذاكرة خوانة.

٧) رواء مكة - حسن أرويد
نشأ هذا الكاتب والفيلسوف المغربي قريبا من البلاط الملكي في المغرب ودرس جزء من دراسته مع الملك محمد السادس حينما كان وليا للعهد. وشغل في حياته مناصب عدة منها المتحدث الرسمي باسم البلاط الملكي المغربي. ويذكر أن نشأ في أسرة أمازيغية مؤمنة ديّنة أما هو فقد حاد وشط عنها فألحد أو كاد وأصبح يرى الدين مجموعة من الطقوس والممارسات البدائية ويرى الحج وسيلة أستطاع بها العرب تطويع الأعاجم باسم الدين. ثم حصل ما حصل وجاء للحج وما قاده إليه إلا المصادفة وتجربة مرض قاسية مر بها. وهنا كانت المعجزة فغير الحج حياته. فرجع بقلب غير القلب ومال للتصوف والعودة للجذور الأولى التي رأى أبويه عليها. وكان حجه عام ١٤٢٧ ونشر الكتاب بعدها بعشر سنوات. وإن كان الكاتب يزعم أنه تخلص من تعصبه للأمازيغية وميله عن العرب إلا إن الكتاب لم يخل من قدح في العرب ذات اليمين وذات الشمال. وفي الدقيقة ٢٩:٤٥ في هذا المقطع كلام جميل عن الكتاب من شخص أعجب به - ربما أكثر مما ينبغي - :



هذه سبعة كاملة. ولعلي أستمر في تدوينة مماثلة بين فترة وأخرى إذا كتب الله ويسر.



رمضان ١٤٤٠ هـ


تعليقات

ضع بريدك هنا ليصلك ما ينشر في هذه المدونة من وقت لآخر..

* indicates required

الأكثر قراءة