كلام (١) : مواقف من غرب فرجينيا..
الصورة هذه من رحلة إلى شلالات المياه السوداء في ولاية ميرلاند - مجاورة لغرب فيرجينيا |
.... وتمضي الحياة. بين آخر سطر كتُبته وهذا السطر أيام ذوات عدد. لو استحالت صفحات في كتاب لكان عنوانه “فوضى”. ولو كانت هذه الأيام فصلا في رواية لكان فصلا مليئا بالأحداث ولكن بلا شخصيات ولا بداية ولانهاية. ورغم هذه الفوضى إلا أن نعمة الله وفضله تحفني في نفسي وأهلي من كل جانب. لا أقوى على شكره وذكره سبحانه جل وعلا. أخطو خطواتي الأخيرة في برنامج الزمالة فلم يبق إلا أسبوعان. ثلاث سنين من الأحداث المتسارعة والقصص والنجاحات والإخفاقات أخرج منها مغتبطا لأنني أرى الفرق الكبير بين ما كنت عليه وبين ما أنا عليه الآن. عرفت نفسي في هذه السنوات الثلاث كما لم أعرفها من قبل أو بعبارة أقل درامية عرفت نفسي في مواقف الخوف والغضب والرغبة والميل ورأيت فيها نزعات من طغيان الهوى وحب الذات والتعالم والتواضع وما بينهما. رأيتها قاسية في مواقف لم أعهدها قاسية متحجرة فيها ورأيتها رقيقة مضطربة أمام أخرى. رأيتها تهتز وقد ظننتها بها الثبات ورأيت خلاف ذلك والإنسان مع نفسه في صراع ورحلة من الاستكشاف لا تنقطع. طُردت مرة من غرفة مريضة بلا سبب وكان الأمر قاسيا علي لأنني لم أكن وحدي بل كان الطرد أمام عدد كبير من الناس. طردني زوجها بلا سبب أعلمه إلا العنصرية العمياء فأبدله الله طبيبة محجبة حجابا ضافيا ولو طردها هي الأخرى لطُرد من باب المستشفى. ومما تعلمته من هذه التجربة القصيرة أن هناك من لايصلح معه التطلف ولين المعشر. فلا يسهل التخاطب معهم إلا اللهجة الآمرة الحازمة ووضوح الصوت. سلام ووداع بلا مقدمات ولا أحاديث هامشية. وقد ذكرت هذا المثال العنصري القبيح مقدمة لقصة هذه المرأة اللطيفة التي تابعتها في عيادتي منذ الشهور الأولى وبقيت أراها في عيادتي كل شهرين أو ثلاثة حتى كان لقائي الأخير بها قبل أسبوع.
امرأة في أواخر الخمسين، من بسطاء غرب فيرجينيا. حييّة ضعيفة الجانب مأمونة. ترعى ابنا لها مصابا بمرض مزمن وليس لها من الناس عون ولا سند. كنت أراها بشكل متقطع في العيادة ولعمق الأثر الذي انطبع في نفسي من ضعفها صرت أتعاهدها بالتواصل وأطلب من ممرضات العيادة التأكد من الاتصال عليها لحضور العيادة. فعل هذا التواصل فعله وصارت لا تتأخر عن مواعيدها. سافرتُ في إجازة للسعودية وعدت بعد عشرين يوم. وكالعادة بدأت في محاولة إدراك ما فات فإذا برسالة تقول إنها في المستشفى مصابة بجلطة في المخ. في نهاية يوم عمل ذهبت لغرفتها زائرا سائلا عنها ولم تكلفني الزيارة من وقتي ولا جهدي أي شيء لأنني أمر على الجناح الذي هي فيه في اليوم مرات. دمعت عيناها حين قلت لها إنني أتيت زائرا ومؤكدا على موعد العيادة القادم إذا خرجت من المستشفى. جاءت العيادة كما توقعت ومعها ابنها وزوجها. سارت العيادة كالمعتاد وحين قلت لها أنني لن أراك مرة أخرى وسيرعاك طبيب آخر في الموعد القادم، لم تتمالك نفسها وانطلقت تبكي. وقد كنت أظن نفسي قد تبلدت مما رأيت في المستشفيات من المعاناة لكن لم أتمالك دموعي وكلماتي فبكيت. لله البسطاء والمساكين! ثلاث سنين قضيتها هنا، لاتكاد ترى للمعروف أثرل في هؤلاء المتعالمين حولك إلا قليلا. ولاتكاد ترى نفسا بهذا النقاء إلا وهي بين جنبي مسكين أو مسكينة ممن لا يعرف ولايذكر.
والناس بالناس تُذكر: أذكره جيدا حين أتاني العيادة للمرة الأولى. تكاد ترى عزة النفس والأنفة تتدفق من عينيه. كل إجاباته تقول إنه لا يعول في الدنيا على أحد. كأنه يتمثل قول المتنبي: وإنما رجل الدنيا وواحدها من لايعوّل في الدنيا على رجلِ. نموذج للرجل الأبيض العصامي الذي يفعل ما يريد ولاينصح ولا يستنصح. حاولت أن أقنعه بضرورة أن يجري قسطرة للقلب لكنه أبى واستكبر. حاول قبلي استشاري القلب بلافائدة. حاول الاستشاري الذي أرجع إليه بلا فائدة كذلك. كان ذلك لقائي الأول به ثم اختفى!. حدثني قبل أن يختفي أنه عازم على الزواج من فتاة في الثلاثين وهو يبتسم. مرت الأيام حتى كدت أنساه ثم ظهر فجأة على جدول العيادة. أتى -وما ظننت أنه سيأتي- لكن بغير الوجه الذي جاء به. منهك القوى، زائغ العينين، متعثر الأنفاس. حكى وحكى .. الآن هو بلا مال ولاسند. المرض أنهك قواه فلا يقوى على عمل. وتخالف هو وأسرته فتقطاعوا ولايود حتى الحديث عن أهله. وهو الآن يسكن في شقة مع صديق إلى أجل غير معلوم. وجهله وأنفته أورداه المهالك فترك أدويته. نظام العيادة أن تقضى مع كل مريض نصف ساعة لاتزيد. لكنني قضيت معه مايقارب الساعة. تركته يحكي فلما انتهى حكيت فلم أجد منه إلا أذنا صاغية. رجوته أن يأتي بعد أسبوعين فأتى قبل الموعد بنصف ساعة بوجه غير الوجه الذي جاء به. يفيض بشاشة وانطلاقا وعادت إليه بعض روحه لكنه عاد ناقصا أصبعين!. هذا “الأعرابي” الأبيض لم يستسلم وعاد للعمل فطحن أصبعيه تحت صندوق من حديد. يروي لي القصة ضاحكا ساخرا من نفسه وأنا أعجب من هذا الجلد. تعانقنا وودعته لكن بلا دموع.
الأصبعين الناقصين وقصص أخرى كثيرة مشابهة تجعلني أعجب أشد العجب من تقبل كثير من الناس الناس هنا للمصائب والحديث عن الموت، وسهولة أن تتحدث مع المريض في قضايا متعلقة بالخط الفاصل بين الموت والحياة. وأن تسأل أحدهم إن كان يفضل أن يتلقى الإنعاش لو توقف قلبه فجأة أم لا؛ مثل أن تسأله إن كان يريد كأس الشاي بالنعناع أم بالحبق. لا أدعي أنني أملك إحصائية دقيقة لكنها ملاحظة بارزة يراها كل من يشاركني التجربة.
دعك من كل هذا لأنني أجدني تحت إلحاح شديد للكتابة عن جيل عرفته وعشت معه ودرجت.
لعل للحديث بقية.
دكتوري الفاضل استمر وفقك الله مستمتع في قراءة سطورك
ردحذفسلمك الله يا محمد. شاكر لك القراءة.
ردحذف