قصتي مع محمود شاكر.






كانت مكتبة حافلة مليئة بالكتب ، جديدها وعتيقها ، صغيرها وكبيرها . ولم أكن قبل قد رأيت مكتبة تكبرها ، فظننت أن كل العلوم قد حيزت بين جدرانها.علوم هجرها القراء واستغنى بالحديث والإدعاء عنها المثقفون ، وهي فوق ذلك تحفة تتزين بها " المدارس " ، ويتفضلون عليها بقليل وقت " مرة في الأسبوع " ليدخل إليها الطلاب فيزدادون لها مهابة ومنها مللا ولما تحويه بغضا . ادخلها فتصيبني مهابة ويأس ، وأشعر أنني صغير صغير ، أمام هذه الكون المعرفي الهائل ،وهو شعور ما زال يلازمني - وسيبقى - كلما دخلت مكتبة زائرا أو عابرا أو مقتنيا ، فأخرج بقليل علم وقليل مال .. وكثير من حسرة وأسى .


قرر شخص ما أن تقلص مكتبات المدارس وتصبح ضمن " مصادر التعلم " ، فقضي على تلك المكتبة المهابة ، وأخذ منها قليلها .. وبقي الكثير منها حائرا تتقاذفه غرف المدرسة .. وقد تضيق على بقاياها الغرف فتلقى في الممرات ، ليعلو عليها غبار تعب من الترحال .

أصبحت أتتبع أين يقذف بهذه الكتب حظُها العاثر ، فأقرأ بعضها واقفا ، وأقتني منها كثيرا ، حتى وقعت على كتاب أخضر ممزق قد علاه الغبار كتب عليه بخط فارسي مهيب :

أباطيل وأسمار 

السفر الثاني

أبو فهر

محمود محمد شاكر


فبهرني العنوان ، وأعجبت بعبارة " السفر الثاني " ، وعجبت لهذه الكنية لاسم يبدو معاصرا " أبو فهر ، محمود محمد شاكر " ..فتحت صفحة الغلاف فإذا بعدها بيتان رائعان منسوبان لاسم أغرب :

هل صح قول من الحاكي فنقبله ... أم كل ذاك " أباطيل وأسمار " ؟

أما العقول ، فآلت أنه كذب .... والعقل غرس لها بالصدق إثمار

شيخ المعرة 



فقررت أن اقرأه ، وبعد أن قرأته تحسرت لأنني كنت غائبا زمنا عن كاتب عظيم ، وزادني حسرة أنني لم اسأل أحدا عنه فعرفه. سألت من عرفته من أهل القراءة والإطلاع ، وسألت مدرسي اللغة العربية فما وجدت جوابا شافيا . أذهب للمكتبات - وقليلا ما كانت تأذن الأحوال بالذهاب - فيصدمني أنها كانت هنا نسخا قليلة وذهبت .

فأنساني اليأس البحث عن كتبه عموما ، و " السفر الأول " من الأباطيل خصوصا ، وإن كنت لم أنس عزة حروفه وجمال سبكه وروعة أسلوبه وجزالته .. وبقيت في ذاكرتي أبثها من يهتم بالأدب وجمال الأدب .. ومن أجلها أحببت المعري " شيخ المعرة " وفلسفته ، واقتنيت " رسالة الغفران " التي حولها كانت " الأباطيل ".

***

مكتبة هادئة مغمورة في زقاق من أزقة " المسفلة " ، لا يقلق هدوءها إلا صخب الزمان والمكان ، مررت بها على عجل كي أدرك  موطىء قدم في زحام الحرم عمره الله ، قلبت عيني بين عناوينها سريعا ، وانتبهت لحنفيتها الواضحة ، ووجدت بيني وبين ما تحويه حواجز من وقت شحيح ، وعزم كليل ... فيممت الباب .. لتقع عيني على " سفر " ممتليء كتب عليه  :

"المتنبي "

ثم :

"رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"

ثم :

"مفتاح كل كتاب فهرس جامع ، فاقرأ الفهرس قبل كل شيء."

بذلك الخط الفارسي المهيب الذي بهرني أول مرة ، ومرة أخرى تقول لي نفسي أما هذا الكتاب فهو كتاب مختلف ، وذلك قبل أن أنتبه لاسم مؤلفه .. أبو فهر محمود محمد شاكر. فلما انتبهت ، كأنما وقعت على غنيمة عظيمة ، وكنز ما حسبت له حسابا ..
تلك الأيام كان يداهمني شيء كالحيرة أعجز اليوم عن وصفه، لم يكن لي سلاح أواجه به هذا الداهم إلا دعاء حفظته من أعظم الدعاء ، كان يدعو به محمد صلى الله عليه وسلم في استفتاحه لقيامه: " اللهم رب جبرئيل ومكائيل وإسرافيل ، ربنا ورب كل شيء ، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " .. فأشعر بهدوء وطمأنينة لا يمنحها قول ولا فكر ولا استدلال .

أقف خلف أئمة الحرم في قنوتهم فيدعون بألطف الدعاء وأعظمه ، فلا يهز قلبي شيء كقول الإمام " ولا حائرا إلا دللته " .. فكأنني ذلك الحائر الضعيف الذي لا بصر له ولا هدى ما لم يمده البصير الهادي بمدد من عنده .

مضت الأيام هادئة متكررة .. أجدني بعدها بين يدي محمود شاكر وهو يتلو رسالته علي ، لم اقرأ كتابا أشعر أنني أدخل بين أسطره ، أتنفس حروفه ، أعيشها .. كـ" رسالة في الطريق إلى ثقافتنا " ..

أقول : لعلي كنت أعيش ذلا وضعفا فانتشلني بعزته ، حائرا فملأني بثقته ، جاهلا فأغرقني بعلمه. لا أعلم!

أذكر أنني قرأته ، فكأنما استيقظت من سبات عميق عميق ، وكأنما كان علي عيني غشاوة فأزالها ، كنت اقرأ بعضها - الرسالة - ، فتملأني بشيء لا أعلمه ، فلا يكون إلا دموعا تتساقط ، فأضحك على نفسي من بكاء في غير موضعه .. وكيف تلتقي عزة محمود والدموع ؟!


وماذا يهم القاريء لهذه السطور من كل هذا ؟!

وماذا يعني القاريء من شخص سحر بمحمود شاكر وبلاغته وعزته " وتذوقه " وعزوفه عن الحياة الأدبية

الفاسدة ؟!


لا شيء ..
لكنها تباريح ومشاعر حبست طويلا ، وانطلقت بلا سابق نذير حين رأت متنفسا تتنفسه.


أبها ١٤٢٩  هـ ( تقريبا)

تعليقات

ضع بريدك هنا ليصلك ما ينشر في هذه المدونة من وقت لآخر..

* indicates required

الأكثر قراءة