تعريب العلوم والطب
هل كان " فان دايك " و "جوهانس " و " جورج جوزيف " أكثر حرصا على العربية من عرب اليوم ؟ فالأول درّس الكيمياء وعلم الأمراض بالعربية ووضع كتابا في تسعة أجزاء حول التاريخ الطبيعي والكيمياء باللغة العربية وسماه النقش في الحجر ، والثاني درّس التشريح وعلم وظائف الأعضاء بالعربية ، والثالث ألف كتابا بعنوان " المصباح الوضاح في صناعة الجراح " ، والأول يقول في مقدمة كتابه النقش في الحجر " خطر ببالي أن أحاول سد هذا العوز وأن أقدم لأهل العربية عدة كتيبات كل كتيب حاو أصول علم من العلوم على كيفية تمكن معلمي المدارس البسيطة من استخدامه في تعليم الصغار ... إلخ " واليوم تعجز مجامعنا السياسية والعلمية عن سد هذا العوز الذي يعاني منه العرب وهم يملكون كل المصادر والطاقات والمتخصصين لتعريب العلوم .
كتب " يوحنا ورتبات " في مقدمة كتابه " التوضيح في أصول التشريح " :
" أما بعد ، فيقول العبد الفقير جامع هذا الكتاب إنني لما دعيت لتدريس علم التشريح في المدرس الكلية التي أنشئت حديثا في بيروت رأيت أنني أخدم أبناء اللغة العربية بوضع كتاب جداد منقول عن أحدث الكتب المعول عليها في المدراس الإنكليزية والأمريكانية فشرعت في التأليف وأفرغت كل جهدي مدة أكثر من ثلاث سنين جامعا فيها كل مسائل التشريح التي "تحتاج" إليها الطلبة " .. ثم بدأ بذكر المراجع التي نقل عنها ثم يتحدث عن موافقته أو مخالفته للمدرسة المصرية في الترجمة ! وهذا كان عام ١٨٧١ حين طبع الكتاب وبجهد شخصي منفرد ، لاتموله وزارة متنعمة ، ولا جامعة الدول عربية . وهذا مما يصعب تصوره على من يرون التعليم باللغة العربية حلما مستحيلا لايمكن الاقتراب منه . واليوم بعد قرن ونصف من الزمان لايكاد يوجد في العالم العربي إلا جامعة أو جامعتين تتبنى تدريس الطب باللغة العربية ، بل زاد الأمر سوء وانحرافا بالعودة للوراء وإلغاء التعليم باللغة العربية في أغلب التخصصات العملية!
بعد مقدمات وممهدات ظهر المعهد الطبي العربي في سوريا كمثال يُخجل كل يشكك في إمكانية تعريب العلوم ، وكل من يرى أننا في واقع لايمكن بأي حال أن ندرك ركب العلوم الغربية المتسارعة ، فقد نشأ المعهد بجهود بدائية فردية ، خلفها أناس مؤمنون وإرادات صادقة ، ولم يكن هناك إلا عالم مخلص عالم بالعربية وعالم باللغات الأجنبية يقضي ليله ونهاره بين هذه وهذه حتى يعرب المصطلح الأجنبي للطالب العربي فيتلقاه دون حواجز ولاسدود ، فخرّجت لنا سوريا أطباء عظام لم تجعلهم " العربية " أقل من غيرهم علما وفهما .. وقد كان ما قدمه علماء المعهد العربي للعربية من ترجمة يشبه ثورة التعريب التي كانت في بغداد أيام الدولة العباسية ، ولم يكن الأطباء الذين درسوا بلغتهم العربية أقل من أندادهم في العالم العربي والعالم عموما بل ربما كانوا وما زوالوا أقرب إلى فهم أسرار الطب وخفاياه ممن يجاهد الساعات الطويلة لفك رموز اللغة التي استعصت عليه !
وهذا ما أكده الدكتور زهير السباعي في تحليله لدرجات الأطباء السوريين في الاختبار الأمريكي في ثلاث مراحل ، فلم يقل مستواهم عن غيرهم من الأطباء في مختلف أنحاء العالم ، فلا تعارض بين دراسة العلوم باللغة العربية لنكون أقرب إلى العلوم وبين ضرورة إتقان لغة أجنبية أخرى لمتابعة الأبحاث والدراسات المتجددة .
ومع هذا التكاسل والتمسك باللغة الأجنبية ، تخرج كلياتنا الطبية والعلمية آلافا من الخريجين كل عام لايتقن منهم اللغة الأجنبية إلا القلة القليلة ، ويبقى معظمهم يتمتع بلغة " هجينة " لاتمكنه من الإفصاح عن معارفه وعلومه ، فلا هو درس بلغته ولاهو أتقن اللغة الأجنبية ، وهذا ليس فقط حال الطلاب بل حال كثير من المتخصصين ، وقد خرج المتحدث في مؤتمر علمي ليس فيه إلا أبناء يعرب يتخاطبون بينهم بلغة أعجمية ، فسأل الحضور من منهم قادر على الخروج والحديث باللغة الأجنبية في أمر عام خارج التخصص لمدة خمس دقائق فلم يكن منهم قادرا على ذلك إلا القليل النادر.
وأنا أكتب هذه السطور بين يدي مرجع من مراجع علم الأدوية ، تقول مقدمته :
" الترجمة للغات الأسبانية والإيطالية والبرتغالية والفرنسية والتشيكية والإندونيسية واليابانية والصينية ، متوفرة الآن كما أن الكتاب سيترجم إلى عدد من اللغات الأخرى وستصدر في طبعات قادمة " ! . كل هذه اللغات الحية والميتة ، والعربية التي يتكلم بها الناس كلغة رسمية في اثنين وعشرين دولة عدا الناطقين بالعربية من غير العرب في أنحاء العالم ، هذه اللغة التي تأتي ضمن اللغات الخمس الأول في سلم لغات البشر لا تجد لها مكانا يناسبها حجمها في التعليم والترجمة ! وفي ظل هذا لايعلم و"كيف يعلم " دارس العلوم العربي أن لدينا شيئا يُسمى " مركز تعريب العلوم الصحية يتبع مجلس وزراء الصحة العرب تأسس عام 1980 م ؟ وله قرارات واجتماعات .. وأتفق وزراء الصحة وعمداء الكليات في الدول العربية قبل عشرين سنة على أن يكون تعليم الطب باللغة العربية وأجمعوا أمرهم على البدء بالتعريب ... على أن يكتمل قبل نهاية عام 2000 م " ومر عام ألفين وستمر عقود أخرى .
قد يرى البعض خصوصا ممن درسوا العلوم بلغات أجنبية أن الحديث عن التعريب هو حديث عن حلم مستحيل ، فلدينا كم هائل من المعارف والمصطلحات ولدينا آلاف الدراسات والأوراق التي تُنشر كل يوم يعجز عن اللحاق بها أي جهد مهما عظم .. (( وهذه حجة باطلة يدحضها في الوقت الحاضر قيام كثير من الشعوب الغربية والشرقية بتدريس العلوم بلغاتها المحلية ، ففي اليابان والصين ودول أوروبا الشرقية وأندونيسا وغيرها من الشعوب تدرس العلوم باللغة المحلية وبعض هذه الدول ذات لغات صعبة وأبجديات غريبة .. ولا حجة للقائلين بترجمة بصعوبة نقل المصطلحات وهي سيل كبير ، إذ أن تجارب أسلافنا وتجارب الأمم الأخرى تشير إلى أن المصطلح يمكن إخضاعه بالتعريب إذا تعذرت الترجمة وذلك بصياغة اللفظ الأجنبي على سنن اللغة المنقول إليها .. )) على مرافيء التراث ١٧-١٨
والحقيقة إن تجربة الترجمة في العهد العباسي ، والمعهد الطبي العربي في سوريا ، وجهود محمد الخاني ، بل حتى فان دايك وجورج جوزيف ، هذه التجارب وغيرها هي حجة على كل المؤسسات والسياسات المنهزمة في العالم العربي .
ـــــــــــــــــــــــ
ينظر :
- تجربة سوريا في تعريب العلوم - د.عبدالله واثق شهيد
- اللغة العربية - نذير حمدان
- مقال : هل تدريس الطب بالعربية يخرج لنا أطباء أضعف ؟ - د.زهير السباعي
- على مرافيء التراث - د.أحمد الضبيب
تعليقات
إرسال تعليق
ضع تعليقك هنا