رحلتي إلى آلاسكا - ٤

 



   

قلت آخر التدوينة السابقة أنني في طريق العودة من دينالي انتبهت أنني لم آكل وجبة حقيقية منذ يومين. وأنني أعيش على القهوة والماء! وهذه عادة حسنة لكنها سيئة لعدة أسباب. منها أنني أحيانا أتصور أن الذي معي في السفر مثلا لايريد أن يأكل كذلك. فإن كان ممن يخجل من المبادرة قضى يومه جائعا. زوجتي تعرف ذلك مني جيدا إذا كنا على سفر فتذكرني أن البشر يأكلون فنتوقف فناكل. أذكر صديقي طارق الفلقي عانى من ذلك كثيرا. صديقي علي السنبقي أيضا بعد التدوينة السابقة بعث رسالة تشير إلى أنه قد ذاق مرارة الجوع معي. 

ومن مساويء هذه العادة أنني أحيانا أسير في المستشفى في نهاية يوم طويل فأشعر بخمول عام وضعف وصداع، فابدأ بالبحث عن الأسباب فأتذكر كل شيء إلا الجوع! وماهو إلا لقمة أو لقمتين فتختفي كل هذه الأعراض. والأشياء أحيانا تكون من الوضوح بمكان لدرجة أن الانسان لا يراها. 


ظهر معي في الخريطة أحد مطاعم الحلال في المدينة وهي ثلاثة أو أربعة فقصدت أحدها، وحين وصلت  شعرت أنني في في بقالة في السوق الشعبي في محايل عسير، فالملابس المعلقة، ونوعية العطور، والبهارات، والنسق العام كله كان يشير إلى سوق محايل الشعبي. وما كان والله أجمل لو أضيف إلى هذا النسق“ أحد الرجلين: بن عواض أو جابر امريشي. وهذان من أعلام صناعة الحنيذ في العصر الحديث فالحنيذ عندهم بطعم اللحم لكنه في قوامه ولونه كالآيسكريم!




صور متفرقة من المحل 



الله يا أحمد - أحد الأصدقاء -.. أتذكر حين كنت تتعطر بأحد هذه العطور، فتخرج بين الناس تمشي الخيلاء وكأن على رأسك ريشة؟!. أتذكر يوم كانت تفوح هذه الرائحة منك على بعد أمتار عديدة لأنك كنت تفرغ نصف العلبة على شماغ البسام الذي تعرف موديلاته كما تعرف موديل "هايلكوسك الجميلة؟ شماغ البسام الذي تبدو حين تسير به وكأنك سمكة قرش تمخر المحيط! والآن يا أحمد لا يرضيك إلا ديور أو شانيل؟.. :)


وجدت كل شيء في هذا الهجين الصغير ( أعني هجين ما بين مطعم وبقالة ) ، لكنني لم أجد قهوة عربية للأسف. ومن المخجل أن أقول أنني أتيت بكل شيء معي هذه المرة مما يخص القهوة العربية: الهيل، دلة صغيرة، خلطة القصيم، التمر … لكنني نسيت القهوة. ولعلي أقضي الأيام القادمة كلها بلا قهوة عربية.    

 

المحل يملكه صوماليون والعاملون فيه كذلك. وقد سألتني الموظفة من أين أنت؟ فقلت من السعودية؟ فقالت: وانتا إيش جابك هنا؟ .. فقلت:الطائرة ، فضحكت. تأملت قائمة الطعام فإذا فيها شورما بلحم البقر!

هل يمكن أن أطلب شورما من مطعم صومالي يا أختي الفاضلة؟

وهذا ليس ذما ولا عيبا. ومثل ذلك لو تطلب مرقوق من مطعم لبناني؟ أو عريكة من مطعم كشري. كلها خيارات لا تتسق مع النسق الذي كنا نتحدث عنه. وليس للإنسان إلا أن يستسلم للأنساق من حوله ولذلك طلبت لحم ماعز مع الرز، وقد كان لذيذا جدا رغم أنني كنت أضطر لاستخدام كل طاقتي مع كل قطعة منه، ثم ألوكه كمطاط. لكنه كان لذيذا وغني بالنكهة و .. البصل.   

تمنيت أنني سألت عن سبب وجود الصوماليين الملحوظ في هذه المدينة. لكن لعل الله يأذن بذلك في قادم الأيام.


سأقول لي ولك شيئا: إنني من أقل الناس تخطيطا في حياتي. يتحدث الناس عن الخطط السنوية والخمسية.. إلخ. فأتصور انهم يتحدثون عن خيال. أحاول أن أنجز ما في يدي وأن يكون لدي تصور عما أريد فعله لكن لا أكثر من ذلك. هذه الجداول والخطوط والمربعات التي يحسنها بعض الأصدقاء - كما يقولون!- لم تصلح لي. ولا أدري إن كانت سأحول تجربتها مرة أخرى. 


أقول هذا لأن الخطة الوحيدة التي أقدمت عليها بلا تردد قبل سفري إلى هنا أنني حجزت تذكرة ذهاب وعودة. دون أي شيء آخر في المنتصف. ثم بدأت أملأ الفراغات. وأجاهد نفسي من فترة طويلة على أن أتعلم اللامبالاة والرفق بالذات حين تعيش لحظات اللاشيء. اللاشيء هنا مثلا أن تحدق في السقف، أن تقرأ كتابا غير مفيد، أن تقضي وقتا طويلا على وسائل التواصل بين فترة وأخرى.. أن تسافر ساعات طويلة إلى آلاسكا ثم تقضي يومك في الفندق تقرأ كتابا عن تاريخ النسوية في الأديان. هذه "اللأشياء" لا تصلح أن تكون طبعا، فلا شيء أجلب للسعادة ، واطرد للأمراض النفسية من شغل تحبه، وإنجاز تنجزه. لكن لا يصلح أن يقسو الإنسان على نفسه. 

وإن كنت في كل حال لا أشجع على السفر إلى هذه المنطقة بلا تخطيط خصوصا لمن يسافر بالأهل والأولاد. لأن المناطق متباعدة ووسائل التنقل محدودة أحيانا. وقد أتحدث عن هذا إذا انطلق الخاطر. 

      

عدت لغرفتي فقابلت سام القادم من سياتل وهو يسكن في غرفة مقابلة فحدثني عن جبل يبعد ٤٠ دقيقة تقريبا واسمه جبل القمة المسطحة. وكما ذكرتُ لك فيما يتعلق بالتخطيط، عزمت على الذهاب للجبل ووضعته على القائمة لليوم التالي.  ومن الطريف أن سام وغيره ، قدموا إلى آلاسكا وتركوا منازلهم واختاروا هدوء هذه المنطقة مع الاستمرار في أعمالهم عن بعد. فهو يعمل حتى الثالثة أو الرابعة ثم يبقى لديه قدر كبير من النهار يفعل فيه ما يشاء. وهذا تعامل ذكي مع الأزمة خصوصا لمن يعيش في المدن الكبيرة. فتكلفة إيجار الشقة في مدينة مزدحمة يغطي تكاليف السفر والعيش في مناطق هادئة. فيسكن أحدهم على هوامش المدن ويمارس العزلة الاجتماعية كما يحب. وإذا انتهى يومه خرج يستكشف المنطقة ويتأمل في الدنيا من حوله. 

والنهار هنا طويل والليل قصير، فالشمس تشرق ٦:٣٠ تقريبا وتغرب الساعة ٩:٣٠. وقد كان النهار أطول من هذا بكثير إلى فترة قريبة، والليل أقصر بكثير فلا يتجاوز ٣ ساعات. وقد كان المسلمون هنا يصومون ٢١ ساعة في رمضان الماضي. وبعض المناطق التي لا تبعد أكثر من ٣ ساعات من هنا كانت لا تغرب عليها الشمس مطلقا. وعلى ذكر الصيام خطر في بالي شيئا علمته اليوم وهو أن المركز الإسلامي الذي وضعت صورته قبل أيام كان من بناء الحكومة السعودية قبل عدة سنوات. والمهم أنني سأتجه غدا للجبل الذي حدثني عنه سام! 


٤ محرم ١٤٤٢ هـ 



تعليقات

ضع بريدك هنا ليصلك ما ينشر في هذه المدونة من وقت لآخر..

* indicates required

الأكثر قراءة