رحلتي إلى الآسكا - ٦

 لكل انسان على هذه الأرض قصة طويلة ذات تفاصيل لا تنتهي. وأعني كل إنسان بما تحمل الجملة من معنى مباشر. كل ما نحتاجه لندرك نذلك أن نتجاوز الطواف حول ذواتنا والانصات لقصص الناس، ومنح من حولك مساحات للحديث والتعبير عن الذات. وقد تدرك أحيانا ما لايدرك الإنسان من نفسه. أحيانا يغلب علي الاستغراق في هذه الفكرة فأرى الناس تتحرك والقصص تسير أمامهم كنوتات موسيقية. وللكلام شهوة كشهوة الطعام والشراب والإنسان لا يقوى دائما على أن يجوع ويظمأ ويصمت ولكن يسدد ويقارب. 

أكتب الآن من طائرة صغيرة لا تقل أكثر من تسعة أشخاص متجها إلى حدائق كيتامي الوطنية. قبل سفري بليلتين دلني حبيبنا الدكتور محمد الفهيد على مقطع فيديو لهذا المكان فأضفته على القائمة. والحدائق أو المنتزهات الوطنية في أمريكا ليست حدائق بالمعنى الدرج بل غابات فسيحة تنقطع فيها الركبان. لكن عليها صيانة معقولة وتجرى فيها أبحاث وبها موظفون دائمون أو موسميون. 



كما ترى الطائرة كبيرة جدا 


يجاورني على الطائرة صديق تعرفت عليه قبل خمس دقائق، يقصد نفس المقصد وهو غزو الدببة في عقر دارها. السماء تحت الطائرة بيضاء تماما من كثافة الغيوم فلا نرى شيئا إلا الأفق الأبيض. صديق السفر منطلق في الحديث فتحدثنا حول أشياء كثيرة. كان يعمل في عرعر لمدة طويلة عاش خلالها وسط الصحراء. لا يعرف من السعودية إلا الصحراء. قرر هذا الرجل قرارا جميلا وأغبطه عليه. مع بداية أزمة كورونا تحولت كثير من الأعمال إلى العمل عن بعد وتحولت بعض المنازل إلى سجون مصغرة خصوصا في المدن المزدحمة. فكر هو وزوجته في شيء مختلف. عمله كل عن بعد، وزوجته تكمل الدكتوراة ومنشغلة بالرسالة وهما وطفلتهم يسكنون في شقة في العاصمة واشنطن. 


قررا أن يلغيا عقد الشقة وأن يتجها للطبيعة فهما يقضيان هذه الفترة من منتزه وطني إلى آخر ويسكنان في شقق airbnb ويترحلان بين المدن بالبر أو بالبحر أو بالجو. وإيجار الشقة العالي في واشنطن تحول إلى سياحة في أرض الله. وهو هنا يلاحق مناظر الدببة والطيور والحيوانات البرية. 

ابنته الآن وعمرها خمس سنوات زارت أكثر من ٤٥ ولاية في أمريكا. ومن يعرف أمريكا يعرف مايعني ذلك. فأمريكا قارة ضخمة ومتباعدة الأركان. ولك أن تعلم أن الرحلة من واشنطن العاصمة إلى إلى الاسكا استغرقت عشر ساعات وفارق التوقيت بيننا هنا وبين العاصمة أربع ساعات.


صرنا أصدقاء في فترة قصيرة. تحدثنا في أشياء كثيرة ولدى كرق القدرة على فتح أبواب للحديث ومشاركة تجاربه ولعل كثرة أسفاره ومعاشرته للناس في دول وأقطار مختلفة، هي ما منحه هذه القدرة على الاستطراد وفتح أبواب الحديث والاستماع والاهتمام بالناس حوله. والناس كلهم طيبون لكن قلة من يحسن التعبير عن طيبته وإيصالها للناس بتوسط. فكما أن الانطواء سيء فإن المبالغة في الاقتراب من الناس لا يصلح والتوسط خير في كل شيء لمن يحسنه


صورة تجمعني بـ"كرق"


نسيت أن أقول انني اتصلت على الرقم الذي أُعطيته الليلة السابقة. فرد علي صوت يمني جميل يرحب ويهلل. قلت له هدفي من الاتصال. فرحب وسهل أكثر وأكثر. ثم قال: أبشر، أكلم الرجّال. بعد عشر دقائق تقريبا جاء الاتصال من صاحبني الخليجي وهو يردد: هلا بريحة هلي!“ :). استطردنا في الحديث وأخبرني أنه من السعودية وأنه يعمل هنا تقريبا من عام ٢٠١٤ وأن لم يتلق أي شخص من السعودية من عدة سنوات. ثلاث أو أربع، نسيت. تواعدنا على الساعة السادسة مساء في اليوم التالي. والسادسة مساء هي منتصف العصر هنا وقد أشرت أن أذان المغرب ٩:٣٠. أخذ عنواني لطفا منه قائلا: ما تدري وش يصير في الحياة، لا قدر الله وقد كنت مطمئنا فأرهبني. لكنه غمرني باهتمامه ولطفه.  

ومنذ أن غادرنا المطار صباح اليوم التالي انقطع اتصالنا بالعالم -أو على الأقل اتصالي- فالمنطقة ليس فيها شبكة اتصال. وبقينا كذلك حتى عدنا بعد ١٢ ساعة. ويبدو أن صاحبي كان يتصل طوال اليوم حتى خشي أنني صرت من أمس الغارب. 


نزلت طائرتنا الصغيرة بعد أن عبرت جنات وأنهار تسلب الألباب. وهذه الجنات تتحول إلى بياض قاس بمجرد ما يقترب الشتاء. نزلنا في مطار صغير في أرض لا تظن أن فيها مطار. البساطة هنا علامة لكل شيء فأنت تركب الطائرة وكأنك تركب سيارة أجرة في أمواج الخليج أو البطحاء - منطقتان لسيارات الأجرة في أبها والرياض-. لم يسألني أحد عن جواز سفر أو بطاقة هوية. تأكدوا من اسمي كما هو في ورقة الحجز ولا أكثر من ذلك. 

انتقلنا من الطائرة الصغيرة إلى طائرة عائمة أقل حجما وقد رأيت ملفا صغيرا أمامي فكان طريفا ومخيفا في الوقت ذاته. فقد كُتب عليه دليل الطائرة لأنني شعرت أنها غسالة قديمة. وحركات يد الطيار أمامي كذلك توحي أنك في غسالة ضخمة. طارت الطائرة بعد سمعنا التعليمات من الطيار و المضيف و حامل الأمتعة. وهذه الثالوث حل في شخص واحد وهو القابع أمامي على المقعد يحرك شيئا مثل القير يرفعه ويبسطه، ومرة أو مرتين كانت يده تطوف في المكان وكأن الرجل لا يدري ما يفعل. لم أخف لكن كان شكله لا يليق. 


القائد الموقر ويده الحائرة تبحث عن شيء ما 



هذه الطائرات فيما يبدو تطير على ارتفاعات منخفضة فكان المنظر تحتنا يسلب الألباب، المياه من تحتنا صافية، ثم خضراء، ثم زرقاء وتنوع بيئي لا مثيل له. فأنت بين محيط فجبال فأنهار فبحيرات، ثم سهول ممتدة مد البصر. مررنا بدبة وديسمين - الديسم صغير الدب- يلعبان حولها. رأيناهم بعيدين على شاطيء البحيرة والطائرة تبتعد عنهما. 




وصلنا للمقصد فأُلقيت علينا محاضرة في التعامل مع الدببة. كان العامل في الغابة يقول : إذا رأيت الدب فلا تقترب منه أكثر من خمسين ياردة. وتوقف في مكانك ولا تحدث جلبة غير الحديث المعتاد. تحدث في هذه المنطقة مع نفسك لأن الدب يعرف صوت الإنسان فلا يعتبره عدوا والمشكلة حين لا يدري الدب ما الشيء الذي أمامه فيدفعه فضوله للاقتراب منك ثم قد يحصل ما يحصل كأن تهرب أو تتصرف بحماقة أو يتصرف الدب بحماقة. إذا شعرت أنه يقترب أو يسير باتجاهك فهو غالبا لا يقصدك. حاول أن تحتفظ بمسافة كافية وارجع قليلا قليلا حتى تراه يبتعد. إن اقترب اكثر ابتعد أكثر وهكذا. حفظنا الدرس. 

صار بيننا من العلاقة الإنسانية أنا وكريق ما جعلنا نتساير بقية الرحلة منذ بدايتها حتى نهايتها. والرحلة هي ان تسير على قدميك في مسارات غير مسيجة ولا محمية، ويقد يخرج عليك الدب من أي جانب. لكن المنطقة في كل حال آمنة والناس حولك في المنطقة يسيرون كما تسير في أماكن متفرقة. 

مشينا ما يقارب عشر دقائق وإذا بسراب بني يسير في الطريق. وقد كان دبا ضخما هائلا. كان رفيقي أكثر شجاعة مني فمشي خلفه يريد أن يقترب أكثر فاقتربنا واقتربنا. حتى توقف الدب البني العظيم في الطريق. وكان جديرا لو أٌستحضرت المقامة البشرية لبديع الزمان ومطلع قصيدة بطل القصة:

أفاطم لو شهدتِ ببطن خبت وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا..

إذا لرأيت ليثا زار ليثا هزبر أغلبا لاقى هزبرا. 


التفاتة الدب علينا

٦ محرم ١٤٤٢ هـ 



تعليقات

ضع بريدك هنا ليصلك ما ينشر في هذه المدونة من وقت لآخر..

* indicates required

الأكثر قراءة