رحلتي إلى الآسكا - ٩ (الأخيرة)

 


لم يقتحم أحد باب غرفتي وأنا نائم. وإطلاق النار ليلة أمس ذكرني بطبيب سعودي قابلته صدفة في مسجد وسط مدينة شيكاغو. قَدِم هذا الاستشاري غفر الله له حيا أو ميتا لحضور مؤتمر، لكنه حين رآني وعرف أنني من بني جلدته، انطلق في الحديث، ثم استطرد فيه، ثم مشى معي إلى الباب، ثم تغدينا سوية، ثم -ولا أدري كيف فعل- أخذني إلى أخطر أحياء شيكاغو ليشتري هارديسك قرأ في الجريدة أن عليه خصم كبير. دخلت أنا وإياه الحي بالباص وكنت قبله أتجنب ركوب باصات شيكاغو. ثم نزلنا إلى السوق المقصود. وقد كانت الأنظار علينا في الباص، وحين نزلنا منه، وأثناء وجودنا في السوق. ومع بالغ الأسف لم يجد الشيخ مبتغاه. فاستأذن أنه سيذهب للحمام على أن نلتقي في هذه النقطة من السوق. ثم اختفى!. وأنا والله لا أدري أين هو إلى يومي هذا!


بقيت أنتظر وأنتظر لعل الرجل يعود فما عاد. ولم يكن معه من فرط حرصه وشدة قبضه على المال وسيلة للاتصال. فلما طال الأمد طلبت سيارة تعيدني إلى شيكاغو. فجاءت السيارة تقودها سيدة سمراء. فما إن ركبت حتى سألتني: مالذي أتى بك هنا؟ فأجبتها إجابة عامة، وإلا قد كان يليق أن أقول : الحمق والبلاهة!. فقالت ما معناه: والله إنك منت صاحي. أتدري أنك في مكان قد يتخطفك الناس في وضح النهار. فقلت: أدري ولكن! .. ولم أحر جوابا. 


عدت بفضل الله إلى شيكاغو لكن العربي بداخلي ما زال يؤنبني ويقرعني على تركي الرجل حيث كنا. فاتصلت على سالم الفيفي. فكان أشد مني عروبة وحمية. وربما شيء آخر فقال : قابلني الآن!. فنزلت إليه فأخذنا سيارة أخرى إلى وادي الذئاب وقد غربت الشمس. وطلبنا السائق أن ينتظرنا، فقال: ما أنا بمنتظر إلا إن بقي أحدكم معي. فنزلت  أبحث عن الرجل وانتظر سالم. فكدت أقلب السوق علبة علبة وكيسا كيسا، فما وجدت له أثرا ولا أدري أهو فوق الأرض أم تحتها!. وإن مات فهو شهيد الهارديسك. غفر الله لنا وله.  


  خرجت من هذا النُزل الذي كنت فيه. واتجهت جنوبا الى مدينة  وتيير وهي تبعد ساعتين تقريبا من أنكوريج. وكانت في السابق ثكنة عسكرية. وبها سجن قديم. وهي تقع خلف جبال ضخمة ولا يمكن الوصول إليها إلا بنفق كسم الخياط يخترق جبلا أصما عظيما. وطول النفق ما يقارب ٤ كلم. لايمكن أن تعبره سيارتان متقابلتان. فالسير فيه متبادل بين المقبلين والمغادرين. والقطار قد يأتي فيتوقف الجميع. والمدينة صارت وجهة للناس للجمال العجيب والطبيعة الساحرة. وبها سفن ومراكب تأخذ الناس إلى الأماكن المنقطعة. 

قضيت في المدينة يومي كله حتى اقترب المساء فعدت ولم أقرر بعد أن سيكون مبيتي هذه الليلة. 


  

وعلى امتداد الطريق ترى البيوت المتنقلة ينام فيها أصحابها، وهي عادة مألوفة ومنتشرة في أمريكا. وهناك محطات مهيأة لأصحاب البيوت المتنقلة تؤجر بمبالغ بسيطة للعابرين والسائحين. 

وجدت في الطريق سيدة تبيع التشاي، وهو أقرب ما يكون للكرك - المشروب المعروف -. فقالت إن صاحب المحل من أوروبا الغربية وهذا المشروب منتشر في هذه المنطقة خصوصا في فصل الشتاء. وكانت تبيع معجنات أشبه ما تكون بالمعجنات الشامية والتركية.


وأنا جالس في مقهى هذه السيدة وجدت مكانا بالقرب يملكه شيخ وعجوز، فاتجهت إليه. فكانت دارا في غاية اللطف والرقة. كأنما نما مع الطبيعة حين نمت. وكانا في غاية التدين المسيحي. فتجد الإشارات الدينية في كل زاوية. حييته وحياني. لكنه ما لبث أن أخذني في الحديث حول الأديان والسياسة وإيران واليمن وأسامة بن لادن وداعش. وكأن الرجل خشي على نفسه فأراد أن يطمئن. فطمنته حتى تطمن. لكن لم يزل في شك في ما هو الإسلام الصحيح بين الخيارات الموجودة. سألته إلى أي مدرسة مسيحية ينتمي فتهرب بذكاء وقال أنه لا ينتمي إلى أي مدرس. وقد كذب. وقلت له أن يقرأ القرآن.   


كانا لطيفين رغم أنني لم أحتج منهما إلا القهوة في أوقات غير معتادة. مثلا الساعة السابعة مساء. وكانت قهوة طيبة. قضيت في دارهما يومين. وقد وضعا نسخة من الإنجيل على طاولة الغرفة هدية للزائر. ودفترا لتكتب فيه ما تشاء فكتبت لهما آية سورة الحجرات:   يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفو، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير.


كل شيء إلى زوال. وكل الأشياء تنتهي. كل اللحظات تتلاشى. كل المشاعر تختفي. لا شيء يبقى إلا وجه الله سبحانه. رحلتي غدا إلى واشنطن. وكأنما وصلت هنا الأمس. ورغم وضوح حقيقة زوال الأشياء إلا أننا قليلا ما نراها جلية وواضحة. ولذلك نحزن عند الفراق. وتؤلمنا وفاة حبيب. ونفرح باللقاء. ولو أننا نستحضر حتمية الرحيل عندما نلتقي لما سعدنا باجتماع.

وهذه الأرض العجيبة تذكرني بالثراء الذي تملكه أمريكا في كل شيء. وآلاسكا كغيرها من الأراضي الأمريكية أرض من ذهب. والفجوة التي بين أمريكا وغيرها من البلدان ليست فجوة في المعرفة والعقل فقط بل في الثروات والتنوع الذي لا تكاد تجده في مكان آخر. ومن الطريف أن هذه الولاية الفائضة بالثروات، اشترتها أمريكا من روسيا بمبلغ زهيد فهي من أغبى الصفقات في التاريخ. وروسيا أقرب إلى آلاسكا من معظم الأراضي الأمريكية!

 

 على أن الفقر تراه في ملامح الناس في هذه المدينة وبعضه بسبب المخدرات والرغبة في البقاء في عالم الوهم. فوسط المدينة مليء بالسكارى والمشردين. ولا أظن أنني رأيت هذا المنظر في أي مكان آخر في أمريكا.


كانت هذه آخر سطور كتبتها قبل أن تقلع رحلتي إلى واشنطن مرة أخرى. 

جربت فيها نمطا من الكتابة لم أجربه من قبل. فإن وجدت فيها خيرا فخير وإن غير ذلك فالعذر عند كرام الناس مقبول!. وسأتبع هذه التدوينة بتدوينة منفصلة في الأيام القادمة لصور التقطتها من أماكن متفرقة. 


واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب. 

 

١٠ محرم ١٤٤٢ هـ 


تعليقات

ضع بريدك هنا ليصلك ما ينشر في هذه المدونة من وقت لآخر..

* indicates required

الأكثر قراءة