من العار أن تكون الأمريكية طبيبة !

 


https://www.nlm.nih.gov/exhibition/blackwell/college_life.html






تتشارك المجتمعات الكثير من الرؤى والتصورات ، وتستعمل ذات الأدوات في الحكم والنقد . والذي يصور مجتمعه دائما بأنه المجتمع الجاهل والمتخلف والرافض للجديد ويسوق على ذلك الأمثلة والقصص ، هو في الحقيقة يصنع من نفسه المثال الصريح والبين لصاحب الأحكام المتسرعة والناقصة . وفي واقعنا الطبي العجيب الغريب تسمع وتقرأ كثيرا من هذه الأحكام المتسرعة على مجتمعنا الطيب ، فيوصم بالتخلف والتأخر ورفض التجديد واحتقار المرأة وظلمها ، وزد على هذا ما شئت من المعايب . وكأن هذا المتحدث قادم من عالم آخر وليس جزء من المجتمع " المتخلف "  ويشاركه غالب تصوراته وأفكاره شعر بذلك أم لم يشعر .  والدراسات المهتمة بنقد المجتمعات تبين حجم المساحة التي تتشارك فيها المجتمعات البشرية عموما ، من رفض للجديد ، والشوق للقديم ، والحذر من المجهول . فهي أمور لا تختص بمجتمع دون مجتمع ولا بأناس دون آخرين . 


ومن الطريف أنني وقفت على مذكرات لطبيبات أمريكيات يروين بداية حياتهن مع الطب ، وكيف قررن دخول عالم الطب ومزاحمة الرجال في عالم الطب ، ثم ردة فعل العائلة والمجتمع من حولهن . فالرفض يأتي من الأب والأم والإخوان ، بمبررات مختلفة بعضها كالتي لدينا تماما ، وأخرى تختلف بسبب اختلاف المجتمع والثقافة . ولكنها في كل الأحوال هنا وهناك رفض لما لم يُعهد من قبل وما لم يُعرف .


كان هناك فتاة اسمها إليزابيث كويلا ( 1821 - 1910 ) ، كانت تبحث عن عمل يجعلها تقارع أبناء الجنس الخشن ونفوذهم ، ولم تجد شيئا يلبي رغبة في إثبات نفوذها هي أيضا إلا الدخول لعالم الطب . وهنا نرى كيف تتكرر فكرة الصراع مع الجنس الخشن وتحضر بقوة لدى الأنثى فتتجه لما تحب لتثبت قدرتها على فعل ما يفعل الرجال ، وهذا أمر نراه لدى إليزابيث هذه وفي الواقع أيضا . حين قررت الدخول لعالم الطب بدأت بمراسلة كبار الأطباء وكان سؤالها فيما إذا كان من اللائق للمرأة أن تكون طبيبة أم لا ؟ . وتأتي أكثر الردود مجاملة بأن الفكرة جيدة لكنها غير قابلة للتطبيق . صديقتها التي ماتت تعاني من مرض نسائي وأوحت لها قبل أن تموت بأن تكون طبيبة لتنقذ النساء من الموت والمرض، كان السبب الخفي خلف تقمحها الطب.

 في أول لقاء بمقاعد الدراسة رفض وجودها الطلاب ورفض الدكتور كذلك وجودها في بعض المحاضرات ، ورفضتها عدد من المستشفيات في أوروبا وفرنسا وعوملت كقابلة في بعض المستشفيات في أوروبا رغم حصولها شهادة الطب  . وفي هذا الطريق الصعب والمر ، عميت إحدى عينيها في أثناء عملها الطبي في أوروبا ، ولم تتزوج أبدا طيلة حياتها ، لكنها كانت تسعى لصناعة جيل من الفتيات يعي الأمومة بشكل جيد  . بعد كل هذا وأكثر دخلت هذه  الـ"إليزابيث "  التاريخ كأول امرأة في أمريكا تنال درجة الطب وتمارسه . 


على سرير المعاناة والمرض كان يقول لابنته بسكينة الشيوخ : " أنا لا أريد لابنتي أن تعمل لتكسب مالا ، وليس من الصواب في شيء أن تدخلي في منافسة مع أولئك الذين يشتغلون ليسكبوا ليعولوا أنفسهم . فبنت الرجل المهذب لاتشتغل لتجمع المال ، فالميدان الذي خُلقت له هو أن تعملين على إسعادنا وبعد ذلك تتزوجين رجلا من طبقتك ، وستعملين على تنشئة أولادك على أحسن المثل . وسيكون بيتك مركزا للثقافة والسعادة كمنزلنا هذا .  فواجبك الأسمى هو أن تصبحي زوجة وأما صالحة "


من يقرأ هذا الكلام مجردا من النسبة إلى أي أحد ، قد يظن أنه لأحد الرجال حولنا ، ومن الصعب أن يتصور " البعض " - البعض الذي يصف مجتمعه بالتخلف - كون هذا ما قاله والد الفتاة " روزالي سلوتر 1876 " حين قررت أن تكون طبيبة . قررت أن تكون طبيبة فقابلتها أمها بالرفض وأبوها وإخوتها الأربعة لأن "النظرة إلى اشتغال المرأة بهذه المهنة نظرة تساؤل واستنكار " وهي في ولايات الجنوب الأمريكي تتجاوز الاستنكار إلى التحريم المطلق وكان الحديث عن ذلك في المجتمع الراقي يكاد يعتبر خدشا لآداب السلوك ! . تصور هذه الفتاة التي أصبحت فيما بعد أول جراحة في واشنطن نظرة الناس للمرأة الطبيبة وللطب عموما فتقول : " كانت دراسة أسقام الناس وآلامهم مهنة تثير الاشمئزاز ، لدرجة تجعلها غير لائقة بالمرأة إطلاقا . وكان على طالبة الطب أن تواجه بالعتاب من أسرتها التي لحقها العار والخزي ، كما كانت تقابل بالقطيعة الاجتماعية وبكل ما يخطر على البال من عقبات في سبيل محاربة مهنتها " ! وتبعث إليها أمها رسالة ذات يوم ، وقد توفي أبوها : " إن العار لم يمس اسم والدك من قبل. إذا أصررت على تنفيذ قرارك الجنوني بدراسة الطب فلن أعترف بك ابنة في المستقبل مطلقا " . وتسير الحياة وتصبح الفتاة طبيبة كما أرادت أن تكون . 


العجيب أن هذا الرفض الأمريكي لم يكن لدخول الفتاة للطب فقط ، بل كان يمتد ليشمل الفتيان الراغبين في دراسة الطب ، وإن كان بشكل أقل حدة . فحين قرر ماريون سيمس الاتجاه للطب ، بلغت خيبة الأمل بأبيه أقصى مدى : " يا ولدي أصارحك أن أملي قد خاب فيك ولو كنت أعلم ذلك منك لما أرسلتك إلى الجامعة ، أظن أني لا أستطيع منعك رغم أني أزدري مهنة الطب كل الازدراء . ولم يخطر ببالي أن يأتي وقت أرى ابني فيه ينتقل من بيت إلى بيت في هذا البلاد حاملا بيده صندوقا مملوء حبوبا وبيده الأخرى حقنة . كل ذلك لتخفيف ويلات الناس " .. 

وأشد من كل هذا غرابة وطرافة ما فعلته البريطانية " James Barry " ، التي ولدت أنثى لكنها اضطرت لممارسة حياتها كرجل لتصبح " جراحا - أو جراحة - ، وكان لها ذلك فقبلت في كلية الطب ، ومارست الطب وصارت جراحة وكل ذلك في صورة رجل ، وعادت أنثى يوم وفاتها !


ومهما حاول أحدنا استقصاء ردة فعل مجتمعنا تجاه الطبيبة أو طالبة الطب والطب عموما ، فلن يجد شيئا يقارب هذه قسوة المجتمع الأمريكي آنذاك في استنكاره لاتجاه الفتاة للطب ولمهنة الطب بشكل عام . وإن كانا الاستنكار والرفض شديدين على مستوى " المؤسسات " قبل المجتمع ، فقد كان أشد قسوة عندما تكون المرأة الدارسة للطب من الأقليات أو الملونين " اللاتين ،, الهنود ، الأفارقة .. إلخ " . وفي تصوري أن جزء كبير من الشكوى من مجتمعنا التي نقرأ ونسمع هنا وهناك ليست إلا من قبيل المبالغات التي يصنعها الإنسان -الإنسان تشمل الذكر والأنثى - حول ذاته .


فإلى هؤلاء وإلى كل من يصف مجتمعنا الطيب العاقل بالتخلف ، والله إن التخلف متدثر في ثيابك ! 



من المصادر: 


https://cfmedicine.nlm.nih.gov

https://www.nlm.nih.gov/exhibition/blackwell/college_life.html

تعليقات

ضع بريدك هنا ليصلك ما ينشر في هذه المدونة من وقت لآخر..

* indicates required

الأكثر قراءة