أمريكا التي رأيت أنا
أقتربت سنواتي في أمريكا على الانتهاء. كتبت هذه الجملة وأنا لا أكاد أصدقها. مرت هذه السنوات كالحلم العابر، أو لأكون أدق وصفا: كرحلة قطار من واشنطن إلى فيلادلفيا. أنا لم أعد أنا. نظرتي لأمريكا لم تعد نظرتي الأولى وإشاراتي السلبية السابقة عن أمريكا والشعب الأمريكي ليست كل ما لدي عن هذا البلد العظيم. أشعر بشعور غريب وأنا أقول ”هذا البلد العظيم“. ولكن من جرب تجربتي سيعرف ما أعني!. وعلاقتي بأمريكا بمرت بتقلبات كثيرة، فأنا من جيل فتح عينيه على الحياة أول ما فتحها على حرب الخليج الأولى وعاصفة الصحراء. صوت صافرات الإنذار وتوقف شاشات التلفاز وصوت المذيع: ” خطر في مدينة الرياض“، تركت أثارا منحوتة بعناية في زوايا ذاكرتي. ومأساة حربي العراق وأفغانستان، وحضور أمريكا العميق في القضية الفلسطينية يجعل أمريكا قريبة جدا منا على بعدها. ثم جئت أمريكا للمرة الأولى في زيارة قصيرة عام ٢٠١٢ م، فلم أستوعب شيئا لكنني بقيت حائرا أمام سؤال يقول: كيف بقيت أمريكا كما هي أمريكا بعلومها واختراعاتها وأموالها وثرواتها واتحادها رغم هذا التحلل الأخلاقي الظاهر؟ وأجدني اليوم بعد عشر سنوات من هذا السؤال أجد بعضا مما يكون إجابة لهذا السؤال قد أذكرها لاحقا.
كانت زيارة ٢٠١٢ جميلة ولطيفة وقصيرة. كان من حسناتها أنها كشفتني أمام نفسي في أشياء كثيرة منها لغتي الإنجليزية. فبعد سبع سنوات من دراسة الطب باللغة الإنجليزية أفشلُ في فهم ما يقوله الأمريكيون في الشارع وفي المستشفى. كان انكشافي لنفسي قاسيا جدا ومن أقساه أن تجد نفسك عاجزا عن التعبير عن ذاتك، وأنت من يراك أصحابك الفصيح البليغ بالعربية. قادتني الصدفة تلك الأيام للعمل مع طبيب أعصاب يبدو أن لديه بعض المعرفة بالتاريخ الإسلامي والثقافة الإسلامية بشكل عام، ففتح معي محاور مختلفة وكان غالب ما سمع مني العيي والتأتأة. تكرر هذا الموقف مرات خلال هذه الزيارة حتى يئست من قدرتي على ادارك هذه اللغة. وقسوة الدرس تبعه قسوة مني على نفسي فأصبحت اقرأ واسمع باللغة الإنجليزية كل يوم وأقضى الساعات وربما الأيام لقراءة مقالة في النيويورك تايمز أو الواشنطن بوست وأمثالهما فتحسنت كثيرا كثيرا حتى ظننت أنني جاوزت القنطرة، ولم يكن ذلك إلا وهما. ومرت الأيام والسنوات ثم يسر الله لي القبول في برنامج التخصص في الطب الباطني في أمريكا، فوجدت أن المشكلة ما زالت كما هي مع تحسن يسير. فكان الناس يتكلمون فأفهم مما يقولون نصف الكلام أو ثلثيه. وأزعم أن لدي قدرة عالية على التخمين والتقدير فكنت أخمن ما بقي من الكلام فأصيب مرة وأخطيء مرات. وأذكر أن الاستشاري طلبني أن استشير أهل الكلى فاستشرت أهل الأعصاب لقرب الكلمتين من بعضهما ولسرعة حديثه. وبقيت على هذه الحالة ما شاء الله أن أبقى، ولم تكن فترة طويلة بفضل الله حتى لان الحديد وفُتح الباب. ومما يعقد الأمر أن العي في اللغة يظنه المستمع عيا في المعرفة، وصاحب اللغة الضعيفة بحاجة إلى جهد ووقت حتى يقتنع من حوله أن لديه ما يستحق الاستماع فكنت أحاول ردم فجوة اللغة بالمعرفة ما استطعت. وصادف أن قضيت أخر شهر في برنامج الإقامة مع الاستشارية التي قضيت معها أول شهر، فكانت ”تموقد“ انبهارا بالتحول الذي حصل خلال سنوات التدريب وقد كان تحولا كبيرا في أشياء كثيرة.
مما لا أنساه من زيارتي ٢٠١٢ هو الصلاة في المسجد في بلد لايصلي فيه أحد، واستمرت هذه التجربة الجميلة التي زادت أمريكا جمالا وبهاء حتى اليوم، فلا أزور مدينة لعمل أو سائحا إلا زرت مسجدها وصليت فيها. ومن أجمل من عرفت من الأصدقاء في أمريكا هم أصدقاء المساجد: ولا تسألني عن الليبين والمصريين والمغاربة والهنود. الله الله ما أحلى هؤلاء!
وحين أقول الهنود أعني أهل القارة الهندية من الهنود والباكستان والبنقلاديش. ومن أول ما عرفت في أمريكا من هؤلاء كوثر الدين وابنه شفاعة الإسلام من بنغلاديش. ديّنان تدينا جميلا صادقا. صادفتهما واقفا انتظر الباص على شارع سبيد وي في توسان عام ٢٠١٢، فوقفا وسلما وعزما علي إلا ركبت معهما فركبت. تبع ذلك أن كانا يأخذاني للمسجد كل صلاة عشاء لمدة شهر ما تأخرا فرضا واحدا. وكنا نصلي في المركز الإسلامي في توسان وهو مركز له تاريخ عجيب: من أوله أن ظهر حوله من ادعى النبوة ثم وُجد مقتولا في شقته في أواخر عقد ١٩٨٠ م. ثم بعد سنوات زاره بعض قادة الحرب ضد الاتحاد السوفييتي. وإمامه بعد ذلك لاجيء عراقي تعرض لمحاولة اغتيال قبل أن يفر. وبغض النظر عن كل هذا فقد كنت أصلي وأخرج، جاهلا بهذه التفاصيل. وخرجت من صلاتي فيه بمعرفتي بهذين الصديقين كوثر الدين وابنه. والأب رجل قارب السبعين وأنا أكتب هذه الكلمات الآن. رجل صادق طيب. وحين علم بعودتي لأمريكا أخذ طائرة من تكساس إلى حيث أنا في فيرجينيا وزارني في بيتي محملا بالهدايا للأولاد. وزرته في بيته في تكساس فأقسم علي ألا أنام إلا في بيته فأقمت عنده ثلاثة أيام آكل وأشرب معهم. ويوقظني لصلاة الفجر قبل الفجر بنصف ساعة فنذهب إلى مسجد يبعد عن بيته عشرين دقيقة بالسيارة وهو دأبه كل يوم. وتلومني نفسي على انقطاعي عنه الآن وتقصيري في وصله. لكنه غفر الله له يقرعني أشد التقريع ويعاتبني أشد العتاب إذا لم اتمكن من الرد عليه أو تأخرت في وصله. فكنت أحمل نفسي على الاتصال به حملا، فإذا اتصلت به سمعت منه الدعوات الطيبة يسبقها العتاب ويتبعها العتاب. ثم ثقل علي وصله حتى لم أعد اتصل به. وقد أرسل لي رسالة قبل أسبوعين، فثقل علي حتى الرد عليه. وبأي شيء أعتذر؟. لكني عازم على السفر إليه مسلما بلا مقدمات عسى أن يكون ذلك مما يغفر الذنب لديه. وإني أدعو له كلما ذكرته بطول العمر وأن يجمعنا به في الجنة.
قريب من هذا، تلذذي بالتجربة الإنسانية العميقة التي تأتي من لقاء عابر في مكان عام بشخص تنزل في قلبك له مودة لذيذة لا تدري لها تفسيرا. فقبل أيام كنت نازلا في فندق في مدينة مارتل بيتش وهي مدينة ساحلية في جنوب كارولاينا. ونزلت المقهى وطلبت صانع القهوة قهوة معتادة وسمعني أنادي ابني باسمه. فقال لي: وأنا كذلك اسم ولدي عبدالله. وعرفت أنه من ألبانيا أصلا. وكان حديثا عابرا قصيرا ثم تفرقنا. ثم إني كنت في زواية من زوايا المدينة فوجدت مسجدا فصليت فيه فإذا المجاور لي هو صاحبي صانع القهوة الذي قابلته الصباح، فضحكنا على تكرر اللقاء العابر. ثم جلسنا في مجلسنا نتعارف، فتشاكينا بعض ما نجد في الغربة هنا وهناك، ثم ودعته وقد نزل في قلبي منزلا. قلت له: قد يكون هذا آخر اللقاء بك، لكن نسأل الله أن يجمعنا في الجنة. فابتسم وقال: آمين!.
وقد كنت فيما سبق أخشى من أمريكا على نفسي وأهلي، وأجد هذه الخشية لدي اليوم أقل حدة. وهذه الأيام أصلي في مسجد دار العلوم في مدينة صغيرة بجواز أورلاندو في ولاية فلوريدا. فلا تكاد تلتف في المسجد إلا وتجد حافظا للقرآن. مع قراءة سليمة بلسان عربي مبين. وجل من في المسجد يأتي بالثوب وما يغطي الرأس بلا تحرج ولا تردد. وتقام فيه كل يوم دروس القرآن والتوحيد والفقه.. إلخ. وهذه من ملامح الجمال في أمريكا. حدثني أحدهم هنا عن طبيب باكستاني مقيم في البلدة منذ سنوات طويلة، وهو يذهب إلى مستشفاه بلباسه التقليدي المعتاد حتى تعود الناس على رؤيته بثوبه الباكستاني بل يتزاحمون عنده في عيادته، ولا يخجل من إظهار دينه وتدينه وشعائر دينه أمام المرضى أو الزملاء.
ونشهد انك من الاشخاص الجميلين الذين تفضلت امريكا علينا و التقينا بهم وتعرفنا عليهم في فيرجينا، فكانت من اجمل السمرات وحكايا محمود درويش والعقاد، وعن صغر الارض وتقارب المعارف.
ردحذفنراك في جبال ابها متألق.
حياك الله يا جميل.. بكم يا صاحبي تتزين زوايا الذاكرة .. ونراكم على خير
حذفماشاء الله تبارك الله، ما أعذب قلمك ،و لاعجب فهو يترجم عن جمال روحك التي تجذب اليها الطيبين و تتيح لك رؤية الجمال في كل ما حولك. أطيب تحية و الله يوفقك أينما ذهبت يادكتور.
ردحذفسلمك الله ورضي عنك .. بعض ما عندكم من فضل وخير حبيبنا
حذف