أمريكي في أبها

 


وإن الحياة لا يوقفها شيء. لا يوقفها صراخك على همومك ولا تصالحك معها. يتكرر علي هذه الأيام معنى ضرورة أن يتصلب الإنسان ويتقوى ولا يجزع ولايتشكى. النعومة لاتصلح وإن كان زمنك ناعما. زمنك الناعم يخادعك حتى تتنعم وتتلوى وتتعطف ثم يلقيك على صخرة مدببة الحواف محاطة بالأشواك. لا أدري إن كان توارد هذا المعنى علي بسبب ما أنا فيه هذه الأيام من مشاغل وهموم وشتات أم أنه باب جديد من الفهم فتحه الله لي. وإني على كل حال كثير الاستنئاس بهذا المعنى سعيد به.


 

زارني قبل أيام أمريكي من فلوريدا، صديق لصديق فأديت واجب الصداقة لصديقي باستقباله وأخذه ورده. في أواخر الأربعين من عمره، وقد زار في حياته أكثر من خمسين دولة. ديموقراطي ذكي العبارة، يحسِب ما يقول. حاله حال كثير من الأمريكيين. وإن كان نفاخر بالصراحة فهم ليسوا كذلك. بل يحسب أحدهم لكل سالفة حسابها. وهو على هذا غريب في بلد، لا يراه معظم قومه إلا محيط أو صحراء من الغموض والأسرار. ومما تحدثنا فيه فصاحة الأمريكيين. واخترت الأمريكيين لمعرفتي بهم وجهلي بغيرهم من الغربيين. وهم فصحاء فصاحة مذهلةً لا تفوت على مطلع. واسمع خطبة للرئيس الأسمر أوباما وتلذذ بوضوح عباراته وجلائها. وأحببت استفزاز ضيفي فقلت له: ألا ترى الفصاحة فيكم عظيمة، انظر أوباما مثلا. بل استمع أحاديث رئيسكم الماضي ترمب وانظر كيف يؤثر في جماهيره الكبيرة ويتلاعب بها!“. فلم يعجب صديقي هذا الكلام لما يحمله في قلبه وكثير من الأمريكيين على ترامب وقال مختلفا بحذر: صحيح أتفق معك أنه متلاعب كبير! ولم يذكر فصاحته بذكر!



تلذذ صاحبي بالحنيذ في مندي بداية وأكل قسمه كاملا وجزأ من قسمي. وأعجبتني بساطته وانطلاقه وعفويته وقبوله بأي شيء. وكان يحرص أن يأكل كما يأكل الناس هنا ويشرب كما يشربون ويجلس كما يجلسون. وتربع مرة على الأرض وطالت تربيعته حتى لم يقم منها إلا زحفا على ظهره ثم حبوا على أربع. ومما عجبت منه أننا لم نكد نمر على مطعم أو مقهى إلا بالغ الناس في الاحتفاء بنا (أو به)، فالقهوة نطلبها فتأتي الحلوى معها بلا ثمن. والشاي نطلبه بالثمن فيأتي كذلك بلا ثمن. ولا أعد من عرض الضيافة علينا بلا مناسبة إلا أن رآني أسير ومعي هذا الصديق الأحمر. بل تجاوز الفضول حده في صدر أحدهم بعد أن رآنا ماشيين في السودة فسأل: من وين الرجال؟ فقلت له: قحطاني! وضحكنا وتركته بلا جواب. على أن في هذا دلالة على سعة صدورنا وكرمنا إلا أن الأمر كذلك لايخلو من إعجاب مضمر بالأبيض وتقدير مبالغ فيه. ولو كان ضيفي من الهند أو باكستان أو مصر أو العراق … إلخ. لما احتفى بنا الناس في الطرقات. وقد قلت لصاحبي لعلي أخذك في كل مكان حتى تتقاطر علينا الأشياء المجانية، والله ذو الفضل العظيم.


ذي القعدة - ١٤٤٣ هـ 

تعليقات

ضع بريدك هنا ليصلك ما ينشر في هذه المدونة من وقت لآخر..

* indicates required

الأكثر قراءة