أيام في تايلند

 







مستقلا الطائرة إلى بانكوك في السادس من رمضان من عام أربعئمة وأربعة وأربعين للهجرة. أشياء كثيرة وهائلة وقعت منذ العام الأول من الهجرة. تخيل أننا الآن في الأربعئمة بعد الألف!. الذيوقعفي سنواتي الثلاثين كثير وكبير. كيف بألف وأربعمئة سنة. وأقولوقعتووقعاستحضارا للمعاني التي يحملها هذا الفعل والصوت المهيب الذي تسمعه من ارتبط القاف بالعين. فهي أحداث ووقائع وواقعات ومصائب وتحولات ..إلخ. مرة أخرى متجها إلى مؤتمر مختلف حول أمراض الكلى وما يتعلق بها

ومن يذهب لبانكوك في رمضان؟ مدينة يعرفها الناس بالعبث والدعارة. وإلى قريب كانت تايلند على قائمة الدول الممنوعة لسكان المملكة منذ حادثة قتل السفير عام ….. لكنها فُتحت قريبا للسياح وسَهُلَ السفر إليها فكأنك مسافر في رحلة داخلية قصيرة. ومن شدة عجبي بسهولة الاجراءات من مطار جدة كررت على الموظفين السؤال إن كان هناك أمر آخر أحتاج إليه قبل ركوب الطائرة. وقد كتبت من قبل فيما كتبت عن اليابان عن هذه المؤتمرات وقلت أنني سأكتب رأيي كاملا إذا أمهلني الله إلى يوما ما ، وألهمني الفكرة

أستقليت الطائرة بعد انتظار ست ساعات في مطار جدة وما إن بدت الطائرة تهتز حتى استلقيت على جنبي الأيمن ونمت كطفل ولم أستيقظ إلا بعد سبع ساعات. نومة جاءت كالمطر بعد جفاف. لا أذكر متى آخر مرة نمت فيها سبع ساعات متواصلة لا يقطعها شيء. لم تنقطع إلا ثوان قليلة حين أيقظتني المضيفة لطفا منها ظنا أنني أود أن آكل شيئا أو أشرب. ولم تعلم أنني كنت فيما هو ألذ من الأكل والشرب. أمران أتلذذ بهما في رحلات الطائرة الطويلة: النوم والعمل. والثاني أحب إلي في الطائرة. فلا شيء يشغلك ولا جوال يقطع عليك أفكارك وخواطرك. لكن الأول ألذ وأحلى حين يأتي بلا استئذان. وهو كذلك لا يقطعه شيء. لا صغير ينسى أن يطرق الباب. ولا اتصال من مستشفى. ولا رسالة من طالب في وقت عجيب. لكنه قد ينقطع بلطف مضيفة تظن أنها تحسن إليك بقطع نومك الطويل. ولا حرج. وكل جميل لا يخلو من عيب

علمني السفر وعلمتني الغربة ألا أتكلف كثيرا في لباس وألا أتصنع. وتعلمت أن ملامحك تحمل معها حمولات ثقافية وعرقية ودينية كثيرة. فلا الجينز الذي ترتديه سيغير ملامح وجهك ويجعلك بلا هوية. ولا تركك للباسك وما يظهر من هويتك سيجعلك سائل الهوية  Fluid identity. ولذلك تركت ثوبي علي هذه المرة ليس تكلفا بل لأنني خرجت من مطار جدة بثوبي فتركته علي. ولماذا أنزع ثوبي وزوجتي معي ترتدي حجابها الكامل؟. ثم إني ذاهب إلى بلد تمتليء بالعرب في الاجازات فليس لباس شهرة ولا تمييز. وانظر إلى نساء الهند يلتحفن أقمشتهن الملونة في كل مكان وفي كل صقع. ومع هذا لم يستغرب شكلي أحد أو لعلي لم أنتبه لأحد حتى وصلت إلى الفندق وسط بانكوك


دعني أقول أنني أحب السفر وحيدا بين فترة وأخرى . وكتبتها سابقا وأكتبها الآن. السفر وحيدا يجردك من القيود والالتزامات والمسؤوليات. تأكل متى تريد وتنام حتى تمل من النوم، أو تسهر حتى تخر صريعا نائما ، أو لا هذا ولا ذاك


والسفر مع الأصدقاء يختلف. لأن الرجل معه حذاؤه وسقاؤه. لا تسل عنه إذا ابتعد ولا تحرص ولا تخاف. وإن ساءك أحدهم بشيء عاتبته فإن ثقل عليك ودعته وانتهى الأمر. وقد سافرت مع أصدقاء كاد اثنان منهم أن يتلاطما بالأحذية في سيارتنا. فقصرنا السفر وعجلنا بالعودة مع اليقين أن الجمع بين هذين من المحال. وعاد الماء إلى مجراه واستوت السفينة. ثم إن العاقل يختار من يصاحبه في السفر. ولي من الأصدقاء كثر والتعايش مع معظمهم سهل. ولي من الأصدقاء من آنس به، وربما يراهم غيري أوحش من وحوش البرية. لكنني لا أسافر معهم ولو محمولا مكفولا. فالعنيد لا يصلح للسفر. ومن يعتد برأيه ويرى أنه لا يخطيء لا يصلح للسفر. والمتطلب المتوحد بحاجاته لا يصلح للسفر. والأناني لا يصلح للسفر. والبخيل الشحيح لا يصلح للسفر. ومن لا يوقر أصحابه لا يصلح للسفر. ومن لا يهتم بنظافة الأشياء حوله لا يصلح للسفر. والشغوف بالتصوير والسناب لا يصلح للسفر. ومن لا يصلي لا يصلح للسفر. ومن يأكل كل عشر دقائق لا يصلح للسفر. ومن لا يعجبه حر ولا برد لا يصلح للسفر. ومن يتذمر من كثر المشي والحركة، لا بصلح للسفر. ومن تكلمه وهو على جواله لا ينزع عنه لا يصلح للسفر. هذه بعض شروطي في السفر. أما في السعة فليس لي شروط ولا قيود. فأصدقاء الوطن كثيرون أكثر من احصيهم أو أعدهم بفضل الله. ثم إن السفر برفقة الناس يمنعني من الكتابة. فأنت في شتات التنقل وشتات الأحاديث وشتات الأشياء. ولا تجتمع الكتابة والناس. واعوذ بالله من الغرور فربما فيّ من الأشياء من لا يطيقها ولا يصبر عليها أحد


وقد أخذني الكلام بعيدا. أكثر من أعجبني في تايلند كثرة المساجد. وكثرة المطاعم التي تعني بأكل المسلمين. وعلامة الحلال على كل شيء وفي كل مكان. والناس عارفة بطبائع المسلمين وعادتهم. وقد رآني أحدهم أشرب ماء في النهار وأنا على سفر فقال: هل تعرف رمضان؟. سألني بإنجليزية ضعيفة. وأجبته ولكنه لم يفهم. وملامحه تقول يا لهذا المسلم الذي لا يصوم في رمضان.

أخذتنا السفينة إلى قرية صغيرة في عمق البحر. فكتبت في خرائط قوقل: ” مسجد“.  كما أكتب دائما في أي مكان أزوره. فظهر لي مسجدان قريبان. فذهبنا وصلينا في أحدهما صلاتي الظهر والعصر. ومررنا في طريقنا على مقابر للمسلمين فسلمنا عليهم. والمسلمون في هذه الجزر النائية في كل مكان. ولله رجال حملوا الدين في قلوبهم وصدورهم حتى بلغوا به هذه الغابات وهذه الزوايا النائية. صليت التراويح في خمسة أو ستة مساجد. وقراءات الأئمة فيها حسنة جيدة. والناس قانتون خشوع لا يتحركون. ولا أعجب من البالغين العاقلين. لكن أعجب من صغارهم لا تهتز لهم شعرة وهم في صلاتهم. وبين كل ركعتين يدعون دعوات يكررونها وصلوات على النبي جميعا يحفظونها كما يحفظون أسماءهم. يجمع بين كل هذه المساجد أنها مطعم للناس وملاذ للفقراء. وكل مرة أحضر لصلاة التراويح في هذه المساجد أجد القدور ممتلئة أو ما يدل على أنها كانت ممتلئة. وجهلا مني لم أكن أعلم بحضور الإسلام في تايلند بهذا الثقل وخصوصا في الولايات الجنوبية منها. ثم تذكرت ولاية فطاني التي كانت مملكة مسلمة منفصلة حتى ضمتها تايلند غصبا قبل قرن من الزمان. والظاهر للسائح البسيط أن المسلمين يعيشون لا مضايقة ولا اضطهاد. ولكل شيء وجهان وربما أوجه مختلفة لا نعلمها.  


مستقلا الطائرة عائدة إلى الديار. مستعينا بالله مستعينا به من كل شر. وقد انصرمت تسعة أيام من رمضان غالية عزيزة. حصرت ألا تفوتني في صلاة التراويح مع المسلمين. وقد فاتت علي يوما أو يومين, وحرصت ألا أدع الصيام فيها. وقد أفطرت أربعة أيام. ثلاثة منها أيام كنت فيها على الراحلة. لكنني أنجزت أكثر مما كنت أفعل في قراءتي للقرآن. ولعلي أحجم في قادم الأيام عن سفر كهذا في رمضان. والقرب من الوالدين أحسن وأحلى والأنس بهم من القربة والبر. وإن كنت ذقت حلاوتها مع الناس في صلاوات التراويح هناك وامتلأ قلبي بامتلاء المساجد بالمصلين حتى في أرض فساد وشر مثل بانكوك. وعلى أنها فاسدة قبيحة إلا إنني رأيتها أقل مما حسبت. فالبسطاء في كل مكان ، والكادحون أمامك يفيض العوز من أعينهم، والبائعون على عتبات الطريق يبيعون الفاكهة والسمك والحزن. ومن يتسكع في هزيع الليل في بانكوك لن يجد قارئا يقوم بالقرآن أو ثلة من الصالحين في مجلس ذكر. بل بائعات هوى ووهم ونواد ليلية وما يقرب من هذا من كل شر


صحوت من النوم هذا اليوم متأخرا حدود الثانية عشر ظهرا. وحرصت أن أنام الصباح كله حتى أذهب للطائرة صائما. ودعني أقول لك إن فعلت فعلي فإنك ستصوم أطول مما يصوم الناس. فإن كان تغرب عليك الشمس في تايلند السادسة والنصف. فلن تغرب عليك في السماء إلا بعد ذلك بساعات. فالشمس لن تغيب وأنت في السماء تلاحقها منطلقا من المغرب إلى المشرق. وكلما عزمتْ الشمس على الغياب عن عينيك انطلقتَ ساعيا خلفها في حلقة لا تكاد تنتهي إلا بأمر الله. وهذا الحال مع كل سفر بالطائرة من الشرق إلى الغرب. وعكس هذا لمن يسافر من الغرب إلى الشرق. فإن كنت بعجلة على الافطار وقد أرهقك الصيام واتعبك فاذهب للمطار وخذ طائرة تاخذ نحو الغرب لعل يومك يقصر ساعة أو ساعتين


والفكرة تتبع الفكرة. وكثيرا من الأحيان بلا رابط ولا مناسبة. وعقل الإنسان يجول بين الأفكار بلا توقف. ولو جلست دقائق تراقب أفكارك كيف تتقلب وتتحول وتقدم وتحجم لرأيت العجب في نفسك وعقل آلم تكن قد أدركت هذا بعد. أقول هذا لأنني كنت أمشي في ممر الطائرة فخطر في ذهني أن الجزء الأكبر من جاذبية الإنسان وقبول الناس له ليس بماله ولا جماله ولا ملبسه وما يرتديه من أشياء. بل هو من ثقته بنفسه في وضوح عباراته مع تقدير وفهم واع للناس. وتأمل فيمن حولك من الناس المقبولين المحببين لترى هذا واضحا. وإن كانت مداخل الناس على الناس تتفاوت وتتنوع. ومن باب الاستطراد في عالم الأفكار=أجدني دائما مضطرا للمقارنة بالنموذج الأمريكي في كثير مما أرى وأشاهد من أشياء والتجربة والسنوات التي قضيتها هناك لايمكن أن أنساها أو أتصنع التجرد منها أو تصلبي على التأثر بها. الأمريكي لايبالغ في التطلف. سواء حين يستقبلك في مطعم أو فندق ولا يتحنى أو يتثنى كما يفعل الآسيويون. هذا من مشاهدتي في الأيام القليلة الماضية في تايلند وكذلك في اليابان قبل أشهر. والأمريكي يصمت فإذا سألته تكلم بثقة كأنه أعلم الناس بما يقول. وتراه في الاجتماع هادئا صامتا فتقول هذا الذي لايهش ولا ينش فإذا نطق كأنما يغرف من بحر. وإن كان في أحايين يغرف من زبد لا ينفع الناس. لكنه واثق لايهتز. زبد يظن بنفسه أنه يمكث في الأرض وينفع الناس.



رمضان ١٤٤٤ هـ 

تعليقات

  1. مقالة أُنس

    ردحذف
    الردود
    1. أسعد الله أيامك ... محمد

      حذف
  2. استمتعت بها

    ردحذف
  3. محمد بن صالح3 نوفمبر 2023 في 10:24 م

    ليسو سواء اخي الكريم … الشعوب الاسيوية جبلت على احترام الاخريين…. ربما بسبب استعمار قديم او طبع سائد و لا نعمم، بينما الامريكي مدفوعا بعقدة التفوق يهرف بما لا يعرف معتمدا علي ثقة مبالغ فيها و خواء. في كل الاحوال ازل القشرة الرقيقة و سترى بشر متشابهون بصورة مذهلة و مزعجة!

    ردحذف
    الردود
    1. لا أختلف معك .. سلمك الله وحياك

      حذف

إرسال تعليق

ضع تعليقك هنا

ضع بريدك هنا ليصلك ما ينشر في هذه المدونة من وقت لآخر..

* indicates required

الأكثر قراءة