أيام في الأرجنتين
الكرة الأرضية قبل وبعد إيميلاتك المهمة |
ليلة العيد ليلة غامضة عجيبة. لا هي رمضان ولا هي عيد. لاهي ليلة هادئة وقورة يعمرها الذكر والصلاة والقيام. ولا ليلة فرح وصخب وبهجة. مشاعري دائما فيها ثقيلة جاثمة. الشعور معلوم والوصف مستعص صعب. وهذا الشعور ليس جديدا علي. أعرفه منذ أدركت. وأظن هذا الأمر عند كثير من الناس. ألا ترى الناس في حيرة من أمر تلك الليلة حتى إنهم لا يدرون هل يتعشون أم يصبرون قليلا فـ يتسحرون ؟! . ثم يصبح الصباح فإذا هم مفطرون؟ وبعضهم يفوته العشاء ويفوته السحور ويفوته حتى الوتر في تلك الليلة. بعد أن كان يركع الركعات ذوات العدد. ذهولا وغفلة.
في مثل هذه الليلة من العام الماضي قبض أبي بيده على صدره، وقال لي وقليلا ما يقول: أحس أني تعبان. أخذته المستشفى وقضى وقضيت معه ليالي العيد في عناية القلب.
ألم أقل أنها ليلة غريبة؟
أنا أعلم ما هو الاكتئاب. أفهم أعراضه وعلاماته. المكتئبون زائرون دائمون لعيادتي. أحيانا أتجرأ وأصف أدوية الاكتئاب لمن أشعر أنهم بحاجة ماسة للدواء، حتى يقابلهم الطبيب النفسي. عرفت ما يقارب أربعين ليلة عيد. بعضها هي يقينا ليالي اكتئاب وحسرة. نوبات اكتئاب حادة وقصيرة. تأتي ثم تنقضي بتيسير الله.
القريب على سفر قد يطول. والحياة عجلة تطحن من لا يصبر عليها. والمشاغل تملأك حتى تقطعك. وأمان تسوقك نحو المنية. وراغب فيك على حرف. وقابل بك على مضض. وبعيد يرجوك وقريب يجفوك. ومسافرون لا يعلمون الوجهة. وسندباد لم ينظر في خريطة الكنز.ولحظات فهم لو استغرقنا فيها لأوردتنا مهالك، أو عرجنا بها إلى مدارج السالكين.
الليالي التي أسعى أواخر رمضان أن أقضيها جوار الحرم تعدل العام كله. مكان كريم. ووقت كريم. ورب كريم. وصحبة زالت معهم الكلفة. بين صيام وقرآن وصلاة وأكل وشرب وسواليف. نعمة عظيمة لا تسهل للناس كلهم. من جميل هذه الأيام أن الوقت ممتليء فلا أكاد أجد لحظة واحدة أفتح فيها البريد الإلكتروني أو أرد على رسالة من زميل أو مريض أو طالب. ولو عقل الإنسان ما تذمر من شغل ولا شكى.
أجمع شتات شملي وعفش رحلتي إلى الأرجنتين. بيني وبين سفارة الأرجنتين ٢٢ بريدا إلكترونيا بدأتها معهم من بداية شهر يناير ونحن الآن في بداية شهر أبريل. ثلاثة أشهر من المراسلات انتهت بمقابلة في فلة صغيرة في العليا يسمونها سفارة الأرجنتين. دخلت السفارة فقابلتني أخت كريمة يبدو أنها هي حارسة بوابة الأرجنتين. موظفة في السفارة على وظيفة “جسر التانغو”. أحضرت كل أوراقي ومستنداتي. أخذتها بلطف وكرم وبعد دقيقتين عادت تقول أن أوراقي ناقصة. تماسكت تماسك من يعلم أنه لابد للغريب من التماسك. وإلا فأنا صائم ومسافر. نازل من الطائرة عجل إلى سيارتي إلى السفارة ، ولم أنس الـ ٢٢ بريدا أنهيها كل مرة:
Please let me know if any further documents are required
ولم يقل أحد منهم أنني بحاجة لمستندات أخرى. لكنني تماسكت وقلت لها أنني سأبعث لكم المطلوب بعد مقابلة القنصل. ووافق جسر الأرجنتين على مضض.
علمتني الأيام أن هناك أشياء وأسرار للبلدان لن تعرفها ما لم تقترب منها بنفسك وجسدك. عند الاضطرار تظهر الأسئلة المهمة التي لا علاقة لها بالفضول المعرفي وحده. الفضول المعرفي يخبرك أن الاقتصاد في الأرجنتين يعاني ويترنح. وأن اليمين “المحافظ” يتولى قيادة البلاد. وأن العاصمة كبيرة بها ما يقارب عشرون مليونا وأن الناس يشربون المتة في الطرقات. وأنهم يقدسون اللحم وماردونا. لكن لا يقول لك أنك بحاجة لدولارات من فئة مئة ليزيد سعر الصرف ما يقارب مئة بيزو عن الفئات الأخرى من الدولار. وأن سعر الصرف الرسمي يختلف عن السعر في الشارع. وأنك قد تجد الناس يصرفون الدولار بالبيزو في الطرقات. لا يقول لك أن بحاجة لطارد بعوض قبل أن تصل ، لأنه منقرض من الأسواق بسبب زيادة حالات حمى الضنك. وأن البخاخ الواحد وصل إلى ٤٠ دولارا في بعض المناطق. هذه الأشياء لا يعلمك إياها الفضول بل تعرفها لأنها تمس يومك وتؤثر فيه. وكذلك الغفلة لا تقول لك أن الأرجنتين بعيدة وأن الرحلة إليها طويلة.
مستقلا الطائرة من فرانكفورت إلى الأرجنتين ثالث أيام عيد الفطر ١٤٤٥ هـ. سبقها طائرة من الرياض إلى فرانكفورت وست ساعات من الانتظار في المطار. ثم هذه الرحلة الطويلة التي تزيد عن ١٣ ساعة. كما ترى. لم أكن أعلم أن الأرجنتين بعيدة بهذا الشكل. أحب في الرحلات الطويلة أن أنام والناس يقظون وأن أستيقظ والناس نائمون. ولهذا الأسلوب مزايا عديدة. لا تتأخر عليك قهوتك. ولا تضطر للانتظار أمام الحمام. ولا تتحرج من التأخر للوضوء. ثم تجد مكانا إذا تيسر للصلاة إذا وافق وقت صلاة. والإرهاق يحرمك متعة القراءة ومتعة الكتابة. وإذا رزقك الله نومة طيبة استيقظت طيب المزاج منشرح الخاطر قادرا على قيادة يومك في البلد الذي تصل إليه. وربما نزلت من الطائرة إلى شغلك مباشرة. وقد كنت أتحسر على الساعات التي تذهب في النوم في السفر ثم صرت أبحث عنها لأنها تبارك لك بعد إذن الله ما أنت مقدم عليه من يومك. والناس نائمون وأن أكتب. ألهمني الله فركعت وتري. ثم صفيت بريدي الإلكتروني من ٤٧٠ رسالة كانت فيه. شجعني على ذلك هذه الصورة من كتاب وجدته في مكتبة في مطار فرانكفورت. وهذا الأمر يندرج على أشياء كثيرة في الحياة. فليس كل ما نمنحه من أهمية مهم.
لم يبتليني الله بحب مشاهدة الأفلام. وأظن أن أثر الأفلام على البشر خطير جدا. لأنه قد يسلب الإنسان عفويته في التعامل مع الأحداث والناس. ولم أر صديقا منغمسا في قراءة الروايات - والروايات والأفلام وجهان لعملة واحدة- إلا وهو مضطرب الحكم على الأشياء. والأفلام في هذا التأثير أسوأ وأخطر. أقول هذا بعد أن جرني تقليب الشاشة التي أمامي إلى مشاهدة فيلم ذي فكرة عميقة جدا جدا. تدور حول حول رجل صارم طيب لا يحسن التعبير عن مشاعره، ماتت عنه زوجته قبل ستة أشهر. وقد عزم على الانتحار حتى أبتلي بعائلة لاتينيه سكنت إلى جواره فغيرت حياته إلى حيث لا يحتسب. أفسد الفيلم المناظر المعتادة في كل الأفلام. ثم حشرهم لقضايا الجندر والشذوذ حشرا كعادتهم قاتلهم الله.
وصلت المطار. أخذتني موظفة الجمارك إلى غرفة قصية في تجربة ليست غريبة علي. قال لي الموظف أنه تأشيرتي غير موجودة على النظام لسبب ما. كنت يجلسني معه على المكتب ويقلب جوزات الناس ومعلوماتهم وأرقامهم بلا تحفظ ولا اهتمام وكأن خصوصية الناس لا تعتبر. أخرج الموظف جواله الخاص أكثر من مرة والتقط صورة لجوازي وتأشيرات وجوازات الناس وتأشيراتهم. هممت أن أنكر عليه ثم تذكرت أن انكار أمر مثل هذا مضيعة للوقت. لاحظت أنه يرسل الصور بالواتساب. الواتساب حكومة متجذرة متعمقة في كل أنحاء العالم. في كل زاوية فيه. بعد ساعتين من الانتظار الذي لا فائدة منه ، تذكرت أن لدي وسيلة للتواصل مع السفارة الأرجنتينية في السعودية. فطلبت منهم تحديث البيانات فحدثوها وانتهى سبب الانتظار الطويل!.
سائق التكسي يحدثني بإنجليزية ضعيفة وعاطفة شديدة عن حبه لميسي. يقول أن ميسي صنم يعبد من دون الله . وهو صادق في هذا. تحدثنا: أنا بإنجليزية أحاول جعلها إنجليزية سهلة قدر الإمكان، وهو بإنجليزية مخلوطة بكلمات أسبانية كثيرة. لكننا تواصلنا: يقول أن وصول رئيس يميني متشدد لحكم الأرجنتين دلالة على تذمر الناس من عقود من الفقر والفشل الاقتصادي. وأن الشعب الأرجنيتني يعاني من الفقر الشديد. يقول أنه درس تجارة الاستيراد والتصدير ثم وجد أنه لا تسمن ولا تغني من جوع فاتجه لسيارت الأجرة. قلت له بفخر أننا فزنا عليهم في كأس العالم. وقال لي أن ميسي يحب السعودية وهو سفير للسياحة فيها. يحاول أن يتحدث أكثر لكن الجهل باللغة عقال لا يمكن الفكاك منه. نصحني بمطعم وبدار للأوبرا. وتفرقنا.
قابلت أصدقاء من مصر ومن الخليج ومن أماكن أخرى من العالم. الخليجيون يعزفون على ذات النوتة. عزفنا سويا في مطعم مقارب عزف الجائعين، على نفس النوته. الأرجنتين تحب اللحم أكثر بقليل من المعتاد. جودة القهوة إلى هذه اللحظة أقل من المعتاد. جربتها في ثلاث أماكن مختلفة. لكنها كلها عادية أقرب ما تكون للقهوة الجاهزة. ستاربكس في كل مكان لكنني لم أزر الأرجنتين لأشرب القهوة في ستاربكس. الرياض وأبها مليئة بستاربكس. استشرنا النادل فيما يمكن أكله عنده فنصحني بطبق “الخبز الحلو”. أعدت عليه السؤال: خبر وماذا؟ قال خبز محلى ولحم بقري. وصل الطبق فلم يكن حلوا ولم يكن لحما. وكان شيئا بين اللحم والخبر. وكان في حقيقته خلطة من البنكرياس والغدة الزعترية للبقرة.
صديقي الخليجي ينظر في الخريطة نظرة واحدة ثم يلقيها ويسير سير الخبير العارف بالمكان. لم يبهرني شيء في هذه الرحلة مثل هذا الصديق الخريت. وأنا الذي ينسى القبلة إذا صعد للدور الثاني. الناس هنا طيبون بشكل عام. ولولا حاجز اللغة بيني وبينهم لطالت بيننا الأحاديث والسواليف. لديهم رغبة للمساعدة والتقدم بخطوة. الموظف في استقبال الفندق يمنحني المنح كل يوم. اسأله أين أجد مظله فيعطيني مظلة معلقة لديه. اسأله عن بقالة قريبة فيسألني إن كان هناك ما يمكن أن يقدمه لي. يقترح علي الاقتراحات والأفكار.
المدن لا تفصح عما فيها مباشرة. أنت تحتاج أشهرا من الانغماس والروتين حتى تتكشف لك المدن والأشياء. والزيارة العابرة التي تشتتها ساعات ساعات عمل أو مؤتمر توهمك بمعرفة المكان وأنت لم تعرف منه إلا القشور والزوايا الظاهرة. ولذلك لا تحاول. لن تعرف في زيارتك القصيرة ما يستحق المعرفة.
زرت مركز الملك فهد الثقافي. منارات عالية ومسجد جميل في وسط العاصمة. تحيط به حديقة جذابة وبجواره مدرسة ومكتبة ومتحف صغير. مساحة كبيرة في موقع جميل. صليت فيه المغرب مع خمسة أو ستة آخرين. شعرت مباشرة بالإنتماء عندما دخلت المسجد. انتماء لبلد عظيم وحضارة عظيمة ودين عظيم.
هذا اليوم الثالث أو الرابع في هذه الأرجنتين. انطباعي - إن كان للانطباعات قيمة - أن هذا الشعب في العاصمة بسيط وطيب. ملتزم بالنظام. هناك تقدير للمحيط والمساحة الشخصية. قلت لهم أكثر من مرة أن المنتخب السعودي فاز عليهم في كأس العالم فكانوا يضحكون. كنت استخدم لغة مزيجا من إنجليزية وأسبانية ولغة إشارة. وشم ميسي منتشر على الأجساد بين الرجال والنساء. أحداهن سألتنا من أين نحن وحين علمت، أظهرت لنا وشم ميسي على عضدها. ماردونا وميسي إلهان يعبدان كما يبدو في هذا المكان.
لا أعرف مالذي يمنح المدن حب الناس أو بغضهم. لكنني لم أشعر بالانسجام في بيونس آيرس. الجو لطيف وجميل هذه الأيام وممطر. والناس طيبون في المجمل والدنيا بخير. والقهوة في كل مكان. والبطون ممتلئة. لكن لم أنسجم مع هذه المدينة. كالعادة. أقضي أغلب وقتي بعد الانتهاء من أعمال النهار في المشي وحيدا في الطرقات. كثيرا من الأحيان بلا هدف محدد. في هذه المرة يرافقني صديقي الخليجي. ثقيل العقل ، خفيف الروح. يكبرني بعشرين سنة. استفدت منه كثيرا. استشرته في أمور متفرقة فكان رأيه مليئا بالحكمة. أقول دائما لأصحابي وأقراني: لا تنسوا العمر. حين يصر من يكبرني سنا وأثق في رجاحة عقله على رأي لا أتفق معه. أعود فأراجع نفسي لأن السنوات لا يمكن تجاهلها. هناك ما يسمى بـ”التعرف على الأنماط”. عقولنا مهيئة لإدراك أنماط متكررة من الأشياء ونتخذ الحكم مباشرة دون وعي منا. عندما أرى في عين من يسبقني خبرة وعمرا، حذرا من أمر ما. يجب أن أحذر أو اتنبه أو أتخذ خطوة للوراء. العلم وحده والقراءة لا تكفي في هذه المواقف. تقول لك الممرضة الممارسة سنوات طويلة أنها لا ترتاح لوضع هذا المريض وأنت لا ترى ما يستدعي عدم الارتياح فلا تشعر بأهمية ما تقول لك… فتسوء حالة المريض. لو عدت فسألت الممرضة ما الذي دفعك لهذا الظن ستقول: لا أعلم. أمر ستسمعه من أي طبيب خبير. اسأل أطباء العنايات المركزة عنه. سيقولون .. هناك شيء ما يشعرنا أن هذا المريض على حافة الوداع.
بين فترة وأخرى أميل للسفر وحيدا. هناك أشياء كثيرة لايمكن التحدث عنها أمام أحد. لست انعزاليا وأظن أنني قادر على التأقلم بسهولة. لكنك قد تحتاج للانغماس في لاشيء، وأن لا تسمع أي نقاش أو جدال ولا تحضر أي اجتماع ذا قيمة. تحتاج إلى مساحة للشحن والتعبئة والامتلاء من جديد. الامتلاء من الصمت والهدوء والمشي في الطرقات والتفكر في نفسك وفيما تفعل. لا تحتاج آلاف الأميال لتمتليء بكل هذا.
الناس هنا يحبون الخبز. وكل الناس تحب الخبز. أمامي الآن على الإفطار عشرات الناس: فطورهم كرواسون محلى بطبقة من السكر وقهوة. عدد من الكرواسونات على كل طاولة. لا أعرف ما هي احصائيات مرض السكر والأمراض المزمنة الأخرى هنا. لكنني لا أرى السمنة الواضحة في الشوارع كما هي في شوارع أمريكا أو السعودية. العامل الجيني وحده يقف خلف كثير من انتشار السمنة والسكري والأمراض الأخرى في شعوب دون أخرى. مثلا لا تكاد ترى السمنة في اليابان أو الشعوب الآسيوية بشكل عام. بعكس أمريكا والعالم العربي. والناس يقولون أن بيونس آيرس عاصمة سياحية بامتياز وأنا لا أكاد أرى في الشوارع إلا لاتينيا أو لاتينية.
هذا اليوم الوحيد الذي أجد لي فيه متنفسا بعد أيام لا تخلو من انشغال. ولست من هواة التسوق أو المشي في الأسواق. وآكل ما يأتي من الطعام عندما أكون وحيدا. ولن أتعنى لحضور مباراة كرة قدم. ولذلك عزمت أن أقضي هذا اليوم ماشيا ، ثم أعود لمرحلة الانتقال وترميم بعض ما تأخرت فيه من أشياء الحياة. واقفا في طابور القهوة. طابور الحياة. نظر إلي ابتسامة العارف بي. ثم قال: من أين أنت؟ بلغة انجليزية بلكنة أسبانية. قلت له: من السعودية.
قال: عرفت ذلك.
- من أين من السعودية؟
- من أبها.
- رائع جدا. عشت في السعودية تسع سنوات. كانت من أجمل السنوات. الناس طيبون والعمل طيب وأرامكو طيبة. ما زلت احتفظ بعلاقات وزملاء إلى هذا اليوم. ما الذي أتى بك إلى هنا…
إلخ
توقف الطابور لحظات. تبادلنا الحكايا العابرة. موقف يعلم كلانا أنه الأول والأخير. ثم تلاشى وتلاشيت …
رافقني في السفر كتابان. كتاب باللغة الإنجليزية عنوانه: كتاب إنجاز الأشياء: إحدى وأربعون أداة للإنجاز. كتاب لطيف جميل وجذاب. وقد كنت جالسا في مكان عام والكتاب أمامي على “الماسة”، فوقف أحدهم: بيني وبينه زجاج المكان. فحدق في وجهي ثم الكتاب. ثم تمعن في العنوان لحظات. ثم أشار لي بأصبعه الإبهام وانصرف. وقلت “ماسة” لأنها تعني طاولة باللغة الأسبانية مع إمالة الميم إمالة بينة. والكتاب الثاني لابن رشد المنطقي وعنوانه فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال. وشدني فيه تساهله رحمه الله في تكفير الناس. أحب أن يرافقني كتاب في السفر. بعض الكتب تحسن العشرة فتتحملها وتتحملك. وبعض الكتب لا تستطيع معه صبرا. فيكون الفراق بينك وبينه مبكرا. كتب السفر يجب أن تكون خفيفة المحمل. سهلة الهضم.
جالس بانتظار طائرة العودة في مقهى يقابل بقالة صغيرة. عامل البقالة يحاول تغيير الروتين. ما زال يمسح الأرض منذ أكثر من نصف ساعة. يمرر الممسحة مرة باتجاه اليمين ومرة بإتجاه اليسار. يبدو أن زوار البقالة قليل هذا اليوم. أنا سأعود للروتين بعد ساعات. يجب أن يشكر الإنسان الله دائما على نعمة الروتين. نعمة الانشغال. لا تتذمر كثيرا من شغلك ما استطعت. لا شيء أقسى من الشغل القاسي إلا الفراغ.
شدني في أهل الأرجنتين التورع عن فضول النظر. عندي عادة تأمل كيف يرى الناس بعضهم بعضا في الأماكن العامة. فلا تكاد ترى أحدهم يصرف نظره عن شأنه. لا أدري عن دقة هذه الملاحظة لكنه شيء رأيته في أيامي القليلة الماضية. والمدن الكبيرة “العصرية” متشابهة جدا. ليس فيها مختلف. في النهار مطاعم ومقاهي وأسواق. نسخ مكررة. حتى الطبيعة تختفي خلف هذه الأشياء. الجميع يسمع أغان إنجليزية. ولذلك بدأت أعاف المدن الكبيرة وأميل للمدن النائية المنسية. في الليل مطاعم وأسواق وحانات. خيارات كلها لا تصلح لي. لا يسافر العاقل ليأكل. ولا يسافر العاقل ليتسوق. والمسلم -والعاقل كذلك- لا يطرق الحانات. ولذلك أجدني أحيانا حين يطول السفر لسبب ما: أشتاق لروتين العمل ، وللإنشغال بالتفاصيل اليومية. بالنقاشات والأحاديث المفيدة والتي لا تفيد. للجدال العقيم. للمشوار الروتيني الذي بلا هدف. لمقابلة الطلاب والمرضى والزملاء. المطعم الذي على الزاوية يطهو اللحم على الفحم. والذي يليه على شواية كهربائية. والذي بعدهما يقدم اللحم في صحن من رخام. والذي في الزاوية الأخرى في طبق من زجاج.
أعود فأقرأ ما كتبت خلال الأيام الماضية فأجد نفسي كتبت عن أشياء كثيرة ومختلفة. شتات من خواطر وأفكار لم تكن الأرجنتين محورها. أحيانا تجد نفسك بحاجة للكتابة فتبحث عن شيء يدعوك لها. قرأت في سفري هذا ثلاثة كتب. كتابين ذكرتهما والثالث عن تشكل الشرق الأوسط. وتحديدا العراق والأردن وفلسطين. اسم الكتاب: مؤتمر القاهرة ١٩٢١ م: قصة العشرة أيام التي شكلت الشرق الأوسط. جهد ضخم لمؤلفه الكندي وجهد لا يقل ضخامة للمترجم. المترجم اسمه: أحمد العبدة. من فترة لم أمسك كتابا وأفرغ منه في جلستين أو ثلاث دون انقطاع. لعل هذا من حسنات انقطاع الأنترنت وغياب الإشعارات. وتستمر الحياة …
تعليقات
إرسال تعليق
ضع تعليقك هنا