الصلابة النفسية
من فترة طويلة وأنا بعيد عن تفاصيل الأخبار وما يحدث في العالم. أتابع أخبار المحيط من فترة إلى أخرى حتى لا أتبلد أو أتحجر. لكن دون انغماس في التفاصيل أو المبالغة في الأحداث أو الزعم أنني أفهم جيدا ما يحدث العالم. أنا لا أفهم معظم ما يحدث في هذا العالم. أنا لا أفهم معظم ما يحدث في الحي ولا أعلم من يموت أو يمرض أو يصاب من الجيران في الحي. بل أحيانا لا أعلم ما تفاصيل ما يحدث في عائلتي القريبة قد. كثيرون مثلي. بل إنني أظن أن غفلة الناس عن المحيط القريب صارت أغلب وأعم مما كانت عليه. نحن الآن مشغولون بالمشاهير وتفاصيل حياتهم اليومية ومشغولون بأخبار الجديد في السوق من مطاعم ومقاهي ومشغولون بالوجهات السياحية المرتقبة. أعلم أن هذا تعميم شديد لكنني أرجو أن تفهم ما أعني بهذا. أعني أن انشغال الناس بما لا نفع فيه ولا تأثير لهم عليه صار الأغلب والأعلم. قلت أنني فترة طويلة وأنا بعيد عن الأخبار وعن السياسة. لكنني من فترة قريبة صار لا يشدني في السياسة شيء مثل قدر الصلابة النفسية التي يحتاجها السياسي أو رئيس الدولة أو الملك .. إلخ. وسط اهتماماتي ومشاغلي اليومية وما أنا مسؤول عنه من اعمال كثيرة تشتتني = أجد نفسي في لحظة أود فيها لو أتخلص من كل ما في يدي حتى أحافظ على ما تأخذه هذه الأشياء من استقراري النفسي وسلامة روحي من الشتات. الملك أو رئيس الدولة محاط بعدد لا محدود من المهام. هل تستطيع أن تتخيل؟ أنا لا يمكنني أن أتخيل. صحيح أن هناك عدد لا محدود من الموظفين والوزراء والعاملين والأجهزة والمؤسسات .. إلخ. لكن المسؤوليات كبيرة جدا جدا. قد تضطرب أنت بسبب خلاف بسيط في المنشئة وربما يصعب على بعضنا التركيز بسبب هم عابر في بيته أو عمله أو مستشفاه إلى آخره. وصاحب الأمر على شفا جرف حرب أو مأساة اقتصادية أو ثورة مضادة أو اتهامات لا تنتهي من حزب أو تهديد قومي. كيف ينام هذا الليل؟. ولذلك لا تستغرب أن تجد كثيرا في أدبنا الثناء على الشخص بالصلابة ورباطة الجأش وعدم المبالاة بالحوادث. اسمع المتنبي:
وَقَفتَ وَما في المَوتِ شَكٌّ لِواقِفٍ - كَأَنَّكَ في جَفنِ الرَدى وَهوَ نائِمُ
تَمُرُّ بِكَ الأَبطالُ كَلمى هَزيمَة - وَوَجهُكَ وَضّاحٌ وَثَغرُكَ باسِم
والناس يقفون أمام الملذات خائفين من المرض قلقين من المستقبل، وجلين من المجهول. لا تمر بهم الأبطال. بل تمر بهم النعم والخيرات. وهم بوجوه مكتئبة حزينة. وثغور عابسة مضطربة.
ولعل مما يهون هموم الإنسان على نفسه أن يذكرها بعظائم الأمور وما يقبل عليه الناس من مصايب وأحزان، وما على مكتب المسؤول من قضايا شائكة ليس لها حل. فتصغر المشكلة وتهون ثم إن الدنيا كلها بما فيها ومن فيها لا تستحق الحسرة ولا أن يتلوى أحدنا في الفراش يطارد الأفكار المتلاحقة ويدافع الهموم المتتابعة. فكل شيء بأمر الله سيمر ويعبر. ولن يبقى من التفاصيل شيء يذكر. وتأمل ما يحصل عندما يموت أحد من الناس ممن عاش كما يعيش الناس بصواب وخطأ. فترى أن كل حياته تتقلص إلى دعوات الناس له وثنائهم عليه. وقد عرفت من يبالغ في ذم رجل من الناس في كل مجلس. وذهب الرجل إلى ربه. فرأيت الذام يدعو له ويعدد محاسنه وخيراته وكأنه لم يذكره يوما بشر. ولذلك يجب ألا يقسو الإنسان على نفسه ، ويبالغ في لومها على الكلمة العبرة التي قد تفلت، أو الخلاف الذي أتى بلا حساب ،أو على التجاوز في العمل أو البيت. وليسع الإنسان إلى أن يكون إنسانا صالحا طيبا في الغالب. يسدد ويقارب ويصلح عيوبه الظاهرة ما استطاع. وستبقى العيوب تظهر وتختفي مهما سعى الإنسان واجتهد وعمل. لإنك إن ذهبت ستذهب إلى رب كريم عفو غفور يعلم نواياك واسرارك. ثم إن الناس ينسون التفاصيل والأخطاء العابرة إلا الحمقى وأهل الحقد والجهل. وسيدعون لك بالخير ويرجون لك رحمة الله الواسعة ويقولون: ”اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأوسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس“!. والثوب الأبيض في يومك تدافع عنه القهوة والغبار وما يسقط من أكل، وزيت السيارة، والجدار المتسخ، والبقعة التي على المكتب التي لم تنتبه لها، وبقعة تأتي من عجلتك في عمل أمر ما، أو ظنك أنك تستيطع المرور بين سيارتين سالما من الغبار. لكنك تجد أنك مسحت السيارة بثوبك الأبيض. والاتكاء العابر بعد يوم طويل على جدار الممر. والعرق الذي لا تقوى على دفاعه في يوم حار. كل هذه وغيرها أعداء ثوبك الأبيض النظيف. تدعو الله أن ينقي ثوبك من الدنس حيا وميتا. وتسأل الله كما يسر لك وأعانك أن ترتدي هذا البياض كل يوم وتجعله جزء من حياتك، أن يزيل عنك الأذى ويطهرك حيا وميتا وأن يجعلك في الأبرار الصالحين.
صفر ١٤٤٧
تعليقات
إرسال تعليق
ضع تعليقك هنا