رحلتي إلى آلاسكا - ٨

 سألني صديق. ما الذي دفعك للسفر وحدك؟ 

أحمد الله الذي منحني عددا لا ينتهي من الأصدقاء والأحباب. وعدد أكبر ممن أعرف معرفة قريبة. وآنس بالسفر مع الأصدقاء والأحباب. ويساورني الشك في كل من يشتكي من خيانة الأصدقاء لأن الناس الطيبون كثيرون جدا.  لكن الوحدة لها لذتها وطعمها الخاص. لا تٌثقل ولا تَستثقل. وأنا بطبعي لا أحب السياحة - بشكلها المعروف- ولا أحب كثيرا السفر المخطط له. وأكره أن أغدو إلى متحف وأروح إلى حديقة وأبيت في فندق فخم. وأسكن حيثما أتفق ما لم أكن مسافرا في رفقة زوجتي وأبنائي. وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم يدعو أن يعيش مسكينا ويموت مسكينا وأن يحشر في زمرة المساكين، ونمط السفر  هذه الأيام فيه من كل شيء إلا المسكنة. ومن مزايا الوحدة في السفر أنك تنجز ما تريد أن تنجز وتدع ما تريد أن تدع. قد تصحو صباح يوم فتقرر أن تقضي يومك حيث أنت بلا حراك ولا عمل كفقمة ممتلئة على شط المحيط الهاديء. أو تصحو فتجد نفسك تحت رغبة ملحة لقراءة كتاب أو كتابة شيء، ومن يقنع رفاق السفر المتطلعين للعالم بأفكارك الكسولة! 

الكاتب يكتب ليقرأ الناس. ولا تصدق من يقول أنه لا يهتم قرأ الناس أم لم يقرأوا. فهل تتصور أن يخطب خطيب في الفضاء الفسيح ويلقى خطبه كل يوم وهو لا يهتم سمعها أحد أم لم يسمعها؟! 

فالكتابة نشاط اجتماعي متكامل. ولا أجمل من القدرة على الكتابة إلا إدراكك أن هناك قاريء جيد يقرأ كتاباتك في خلوته فتوقد في ذهنه فكرة أو تصنع في يومه أثرا. الكتابة - مرة أخرى - كأبريق من الشاي. تبدأ بتنسيق مكوناته بعناية فائقة للحاضرين، وتتركه أحيانا يتقلب على نار هادئة حتى ينضج. ثم تسقي الحاضرين وتتأمل ملامحهم مع الرشفة الأولى. سيقول لك أحدهم أنه متقن، ويقول لك آخر أن يحتاج إلى قليل من السكر ويقول ثالث أن يحبه أقل تركيزا. ولكل كاتب نكهة مميزة لا تُنسى. وربما قرأت َ نصا للجاحظ غير منسوب في كتاب ضخم فترى روح الجاحظ تتسلل من بين حروفه. وغيره كثير. وسعدت كثيرا بالرسائل التي أتتني تفاعلا مع هذه التدوينات من بعض الأصدقاء وممن يمر على هذه المدونة من قراء كرام. 


وعودا على ما نحن فيه، عدنا برعاية الله ووصلنا للمطار فطن جوالي بطنين اتصال صاحبنا. وكان قد عَقَدَ الأيمان المغلظة أن العشاء سيكون عنده هذا اليوم. ذهبت حيث أنزل وتخففت من ملامح السفر وانطلقت لبيت صاحبي الذي لا يبعد عن مكاني أكثر من عشر دقائق. فإذا سفرة عامرة فيها من كل من لذ وطاب، ومزيج من أطباق سعودية ومحلية.  



صورة للمائدة العامرة


بدأ صديقنا رحلته إلى أمريكا قبل خمس سنوات تقريبا كطالب في إحدى الجامعات حتى تخرج منها مهندسا. انتهى من الجامعة فعمل في شركة في شمال آلاسكا حيث تصل درجة الحرارة إلى ٦٠ تحت الصفر. وبعد أن شعر أنه قادر على البداية في مشاريع تجارية اتجه للتجارة ووجد الشركاء فانطلق. فتح له باب الزرق هنا فاستقر وتزوج وعمره لم يبلغ الثلاثين. عجبت كثيرا من روحه المنطلقة ونهجه المختلف. فالخليجيون في الآسكا منعدمون والحياة هنا رغم إمكانية التعايش فيها قاسية إلى حد ما. فهي بعيدة عن أمريكا التي نعرف، والمواصلات فيها إما بالبحر أوبالجو. والطقس متقلب تقلبا عجيبا. وهذه الأيام أجد نفسي في صيف وشتاء وربيع وخريف.


تأتي لفحات باردة مع مطر شديد فيطول حتى تظن أنه لن ينتهي وفي لحظات تجد نفسك في صيف منعش فتتخفف من بعض ما عليك. وقصته ذكرتني بقصة خليل الرواف مع فارق الزمان والمكان - كتبت عن الرواف تدوينة قصيرة تجدها هنا.

ورغم تقديري لمثل هذه الجرأة، أرى أن المبالغة في الحديث عن الطموح والتغيير ودفع الشباب للاختلاف، هو جريمة في حق الأجيال. وكم من فتى سمع قصة لشيء غير مألوف فسعى لمحاكاتها فظل حياته يلاحق السراب. وكثير من أبناء أجيالنا الحديثة أو ما بعد الحديثة هي ضحية للعيش في العوالم الوهمية. ولا أعدد القصص البائسة غاية البؤس التي كانت بسبب الركض خلف وهم السعي للاستقلال وبناء الذات. ونصف ما نسمع من قصص أناس يحكون كفاحهم ونجاحهم هو كذب ودجل. أو هو كحديث العارفين، فيه قليل من حق وكثير من باطل.       

صاحبنا صنع نفسه بطريقة عجيبة. وكان السير معه في وسط المدينة مضحكا جدا. فهو يعرف كل الناس ويعرفونه كل الناس. وكأنه استطاع الوصول إلى الشفرة الخاصة التي استطاع بها حل الأشياء في هذه المدينة العجيبة. لايمر من جانبنا أحد إلا ويلقي عليه التحية ويصير بينهما حديث عابر. وقد أخجلني بكرمه ولطفه والمبالغة في الإحسان. 


وقصص اليمنيين والصوماليين في هذه المدينة مما يستحق أن يُروى. وأحدهم تنقل في حياته بين ألمانيا وإيطاليا ثم المكسيك. ومن المكسيك دخل عبر الأنفاق إلى أمريكا تسللا. والحياة مليئة بالقصص لمن أراد أن يستمع.


انتهى يومي هذا بعد وجبة دسمة في بيت كريم. وانطلقت لمنزلي. قبل ذلك حدثني مضيفي أن المنطقة التي أسكن فيها قد لا تكون آمنة. فما أعطيت الأمر اهتماما. وما إن ولجت الباب واتجهت إلى غرفتي واغلقت الباب حتى سمعت طلقات نار متتالية من الشارع المقابل. تبع ذلك صمت مريب. نمت منتظرا اليوم التالي وهو إما أن أفرغ مما في يدي من أوراق أو انطلق لمكان آخر.. والعلم عند الله. 



٩ محرم ١٤٤٢ هـ   


تعليقات

  1. يالجمال قلمك وروحك

    ردحذف
  2. كعادتك يا صديقي تأسرني بعفويتك وفطرتك في الكتابة أسرتني هذه التدوينة كما أسرتني سابقتها على أن روحك الشفافة وتصوفك الذي تخفيه ظهر جلياً أوافقك الرأي في تجربة السفر المنفرد وأضم صوتي لصوتك في المبالغة في تزيين قصص الطموح وصنع الفارق وما سببته للشباب الصاعد .أنت تكتب بصدق وشفافية ولذلك وصلت لقلوبنا وتغلغلت في أرواحنا كنسيم يهب بعد ركود .دمت نقياً كما عرفتك

    محمد المعربي

    ردحذف
    الردود
    1. رضي الله عنك يا أبا مازن .. منك نتعلم النقاء واستلهام الجمال.

      حذف
  3. جميل ماتسطره ابا عبدالله ولاتقف فإننا نستمتع كثيرا كأنني انظر إلى فيلم
    صاحب جبل المعادن 😐

    ردحذف

إرسال تعليق

ضع تعليقك هنا

ضع بريدك هنا ليصلك ما ينشر في هذه المدونة من وقت لآخر..

* indicates required

الأكثر قراءة